لكل شيء بداية حتى للأديان، ومن هذه القاعدة نسأل كيف انتشرت عبادة الأصنام فى الزمن القديم فى جزيرة العرب، إن كلمة السر تكمن فى اسم "عمرو بن لحى الخزاعى الملقب بـ "أبو الأصنام" .
يقول كتاب "معجم آلهة العرب قبل الإسلام" لـ جورج كدر، بدأت عبادة الأصنام كما تروى الأساطير العربية بعد وفاة آدم أبو الجنس البشرى، حيث نصبه أبناؤه صنماً وعبدوه، لكن كتب التراث "سيرة وتاريخًا وأدبًا" تركّز على أن عمرو بن لحى الخزاعى كان "أبا الأصنام" فى جزيرة العرب، حول هذه الشخصية حيك الكثير من الأساطير، لدرجة تظهر هذه الشخصية على أنها من نسج الخيال الأسطورى.
اختلفت الروايات فى اسم "أبى الأصنام العربية" فمنهم من يقول إنه عمرو بن ربيعة، والبعض عمرو بن لحى وإن لحى هو ربيعة، كما اختلفوا فى نسبه اختلافًا شديدًا، واختلفوا أيضًا فى المكان الذى جاء منه بالأصنام، منهم من يقول إنه أحيا أصنام قوم نوح التى دمرها الطوفان، ومنهم من يقول إنه أتى بأصنام الكعبة من ساحل جدة، ومنهم من يقول إنه أتى بها من الشام، والبعض يقول من البلقاء فى أرض الشام، ويذهب البعض فى التحديد أكثر ليقول إنها من "مآب فى أرض البلقاء بالشام"، والبعض الآخر يقول إنه أتى بها من "هيت فى الجزيرة"، وإن اختلفت الروايات فى هذه القصة فإن مسرح الأحداث هو "بادية الشام".
ومن رواية الشهرستانى فى (الملل والنحل 2/580) يُخبرنا أن رحلة عمرو بن لُحَى كانت فى أول ملك شابور ذى الأكتاف، وحسب تقديرات المؤرخين فإن شابور حكم بين 309-379 للميلاد، وإن صحت الرواية فإن فلك الأسطورة يدور فى الربع الأول من القرن الرابع الميلادى.
تتفق أغلب روايات الأخبار على أن عمرو بن لُحَى هو"أبو خزاعة"، وكان أحد المعمرين العرب، ورئيساً كريماً جواداً، صاحب مال وجاه وشرف وكلمة بين العرب.
قال السجستانى (كتاب المعمرين ص 35) هو عمرو بن ربيعة وهو لُحَى بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة الغطريف بن ثعلبة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، وعمرو بن لُحَى هذا أبو خزاعة غير ولد أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر، قالوا: وقد يُقال إنه لُحَى بن قمعة بن خِندف بن مضر، عاش ثلاثمائة سنة وأربعين سنة فكثر ماله وولده، حتى بلغنا، والله أعلم، أنه كان يقاتل معه من ولده ألف مقاتل.
وقال ابن الكلبى فى (الأصنام): كان أول من غيّر دين إسماعيل عليه السلام فنصب الأوثان وسيب السائبة ووصل الوصيلة وبحر البحيرة وحمى الحامية عمرو بن ربيعة وهو لُحى بن حارثة بن عمرو بن عامر الأزدى وهو أبو خزاعة، وكانت أم عمرو بن لُحَى فهيرة بنت عمرو بن الحارث. ويقال قمعة بنت مضاض الجرهمي، وكان الحارث هو الذى يلى أمر الكعبة.
قال الشهرستانى فى (الملل والنحل): وأول من وضع الأصنام فى البيت، عمرو بن لُحى بن غالوثة بن عمرو بن عامر لما سار قومه إلى مكة، واستولى على أمر البيت.
قال القاضى عياض فى (قبائل العرب" المعروف فى نسب خزاعة أنه عمرو بن لُحى بن قمعة بن إلياس بن مضر، وانما عامر عم أبيه أخو قمعة، قال ابن دريد فى الاشتقاق: من بنى عمرو بن لُحى تفرقت خزاعة.
قال الجاحظ فى (الحيوان): كان لعمرو بن لُحَى بن قمعة رئى من الجن.
وذكر المسعودى فى (مروج الذهب): أنه لما أكثر عمر بن لُحى من نصب الأصنام حول الكعبة، غلب على العرب عبادتها، وانمحت الحنيفية منهم إلا لمعاً.
تروى كتب التاريخ العربى أن خزاعة غلبت على جرهم وأخذت منهم ولاية البيت، لكن روايات تقول إن خزاعة من ذرية عمرو بن عامر، وأخرى من ذرية عمر بن ربيعة بن حارثة الذى خرج من اليمن لأجل ما توقع من سيل العرب.
وقيل إن خزاعة من بنى إسماعيل كما أهل السيرة (البداية والنهاية) يقول ابن كثير فى تاريخه: استمرت خزاعة على ولاية البيت نحواً من ثلاثمائة سنة وقيل خمسائة. وكانوا مشؤومين فى ولايتهم لأن فى زمانهم كان أول عبادة الأوثان بالحجاز، وذلك بسبب رئيسهم عمر بن لُحَيّ، وكان ذا مال جزيل جداً، يقال: إنه فقأ أعين عشرين بعيراً، وذلك عبارة عن أنه ملك عشرين ألف بعير، وكان من عادة العرب أن من ملك ألف بعير فقأ عين واحد منها، لأنه يدفع بتلك العين عنها، وممن ذكر ذلك الأزرقى، وذكر السهيلى فى الروض الآنف، أنه ربما ذبح أيام الحجيج عشرة آلاف بدنة، وكسا عشرة آلاف حلة فى كل سنة، يطعم العرب ويحيس لهم الحيس بالسمن والعسل ويلتّ لهم السّويق (هذه الرواية نجدها فى مكان آخر تتحول إلى أسطورة عند بعض الرواة عن أصل عبادة آلهة العرب اللات، منها ما قاله ياقوت فى ( معجم البلدان) من أن اللات كان يلت لهم السويق للحج على صخرة معروفة تسمى صخرة اللات، وكان اللات رجلاً من ثقيف فلما مات، قال لهم: عمرو بن لُحَى لم يمت، ولكن دخل فى الصخرة ثم أمرهم بعبادتها، وأن يبنوا عليها بنياناً يسمّى اللات).
قال ابن كثير: كان قول عمرو بن لُحَى وفعله فيهم كالشرع المتّبع لشرفه فيهم ومحلته عندهم وكرمه عليهم. وذكر الأزرقى (أخبار مكة 164 وما يليها): كان أول من أطعم الحج سدايف الإبل ولحمانها على الثريد وعم جميع الحاج بثلاثة أثواب من برود اليمن. وكان قد ذهب شرفه فى العرب كل مذهب، فكان قوله فيهم ديناً متبعاً لا يخالف. يضيف الأزرقى (أخبار مكة 150): كان عمر بن لُحَى فيهم شريفاً، سيداً مطاعاً، ما قال لهم فهو دين متّبع.
قال ابن هشام صاحب السيرة: حدّثنى بعض أهل العلم أن عمرو بن لُحَى خرج من مكة إلى الشام فى بعض أموره، فلما قدم مآب من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق، وهم ولد عملاق ويقال ولد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التى أراكم تعبدون؟، قالوا له: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا.
فقال لهم: ألا تعطونى منها صنماً فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه. فأعطوه صنماً يقال له: هُبَل، فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه.
قال ابن إسحاق: ويزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة فى بنى إسماعيل عليه السلام، أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم، حين ضاقت عليهم، والتمسوا الفسح فى البلاد إلا حمل معه حجراً من حجارة الحرم تعظيماً للحرم، فحيث ما نزلوا وضعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة، حتى سلخ ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة، وأعجبهم حتى خلفت الخلوف ونسوا ما كانوا عليه.
وفى صحيح البخارى عن أبى رجاء العطاردى قال: كنا فى الجاهلية إذا لم نجد حجراً، جمعنا حثية من التراب، وجئنا بالشاة فحلبناها عليه ثم طفنا بها.
قال ابن إسحاق: واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام غيره، فعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالات; وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم عليه السلام، يتمسكون بها من تعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة والوقوف على عرفات والمزدلفة، وهدى البدن، والإهلال بالحج والعمرة، مع إدخالهم فيه ما ليس منه.
فكانت كنانة وقريش إذا هلوا قالوا: لبّيك اللهم لبّيك. لبّيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك.
فيوحّدونه بالتلبية ثم يدخلون معه أصنامهم ويجعلون ملكها بيده.
وقد ذكر السهيلى وغيره: أن أول من لبّى هذه التلبية عمرو بن لُحَيّ، وأن إبليس تبدى له فى صورة شيخ، فجعل يلقنه ذلك فيسمع منه، ويقول كما يقول واتبعه العرب فى ذلك.
يقول الأزرقى صاحب أخبار مكة : عمرو بن لُحَى هو الذى بحر البحيرة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي، وسيّب السايبة؛ ونصب الأصنام حول الكعبة، وجاء بهُبَل من هيت من أرض الجزيرة، فنصبه فى بطن الكعبة، فكانت قريش والعرب تستقسم عنده بالأزلام، وهو أوّل من غير الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام، وكان أمره بمكة فى العرب مطاعاً لا يُعصى، قال: فكان عمرو بن لُحَى يلى البيت وولده من بعده خمسمائة سنة حتى كان آخرهم حليل بن حبشية ابن سلول بن كعب بن عمرو فتزوّج إليه قصى ابنته حبى ابنة حليل وكانوا هم حجابه، وخزّانه والقوّام به، وولاة الحكم بمكة وهو عامر لم يخرب فيه خراب ولم تبن خزاعة فيه شيئاً بعد جرهم ولم تسرق منه شيئاً علمناه ولا سمعنا به وترافدوا على تعظيمه، والذبّ عنه.
تجارة الأصنام
يقول الواقدى فى (المغازي): كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً مُرصّصة بالرصاص، وكان هُبل أعظمها، وهو وجاه الكعبة على بابها، وإساف ونائلة، حيث ينحرون ويذبحون الذبائح، هذه الأصنام ظلت على حالها إلى أن فتح الرسول مكة ودخل الكعبة وهدم أصنامها.
وفى مغازيه أيضاً، قال جبير بن مطعم: وقد كنت أرى قبل ذلك الأصنام يُطاف بها مكة، فيشتريها أهل البدو فيخرجون بها إلى بيوتهم، وما من رجل من قريش إلا وفى بيته صنم، إذا دخل مسحه، وإذا خرج مسحه تبركاً به.
ويبدو أن تجارة قريش عرفت تجارة الأصنام إضافة لتجاراتها المشهورة، وربما كان الأمر لا يقتصر على التجارة وإنما على صناعة الأصنام التى كانت مزدهرة ومنها كانت تصدر إلى بلاد السند والهند، فهناك روايتان فى هذا المجال واحدة للطبرى وأخرى للبلاذرى تؤكدان أن معاوية بن أبى سفيان كان تاجر أصنام، وأن تجارته هذه امتدت إلى مناطق بعيدة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة