يتم منذ العام 1987 الاحتفال كل 17 أكتوبر بـ" اليوم العالمي لمكافحة الفقر"، عندما قام جوزيف فريزنسكي مؤسس منظمة ATD بمبادرته لتكريم ضحايا الفقر المدقع، قبل أن تعترف الأمم المتحدة رسمياً بهذا اليوم، وفي احتفالية هذا العام أعتقد أن العالم كله يحتاج أن يلتقط صورة سيلفي مع الفقر الذي إجتاح تضاريسه في هذا العالم الدموي المجنون، المهووس بالحروب التقليدية، أو حروب الأوبئة، أو واقع بائس يرزح تحت فيروس "كوفيد 19"، بينما "وحدهم الفقراء يستيقظون مبكرين قبل الجميع، حتى لا يسبقهم إلى العذاب أحد"، كما قال الشاعر السوري محمد الماغوط.
*******
- لماذا لم تقصفهم بسرعة؟!
- كانوا مجرد أطفالاً...!!
كان هذا الحوار الانفعالي الزاعق بين المجند الأمريكي الصغير وقائده حين داهمتهم قوة ألمانية نازية، وذلك ضمن أحداث الفيلم الأمريكي " fury/ غضب" (2014) إخراج ديفيد آير، التي تعكس صوراً لأجواء القتال والعنف أثناء الحرب العالمية الثانية، حيث تقوم دبابة شيرمان أمريكية وطاقمها المكون من خمسة أفراد بالدخول للأراضي الألمانية في مهمة صعبة لمواجهة عدوهم النازي الأكثر قوة وعتاداً، أما المجند الأمريكي الصغير الذي تردد في الضرب لعب دوره "لوجان ليرمان"، فهو يكاد يكون هو الآخر مجرد طفل تورط في هذه الحرب مثله مثل صغار المجندين الألمان الذين رآهم أمامه، ولم يكن قبل هذه الحرب يعرف كيف يستخدم سلاحاً أو حتى يحمل حقيبة المعدات على كتفه، وحين ذهب إلى الجبهة كان فزعاً تزلزله أصوات القصف المدوية حوله؛ فيما يسلم نفسه إلى قائده سيرجنت كالوير الذي جسده براد بيت، إذ قال بصوت مرتبك:
- أنا مساعدك السائق الجديد للدبابة!
- هل تعلمت قيادة الدبابات بالمدرسة؟
- لم يسبق لي أن دخلت دبابة!
- ستفعل ...
ثم يشير له قائده نحو الدبابة: هذا منزلك الآن!.. بصرف النظر عن غرض هذه النوعية من الأفلام، سواء أنها صُنعت كي تُحسن وتؤنسن بشكل كبير الشخصية الأمريكية أو لأهداف أخرى، فإن هذا الفيلم لم يخرج كثيراً عن الشكل المتعارف عليه لأفلام الحروب الملحمية بأجوائها القتالية، أو كما وصفها الناقد "إيه سكوت" بجريدة نيويورك تايمز حين قال:" إن الفيلم يقدم صورة قديمة الطراز ونمطية ولكن القصة بها الكثير من عوامل الجذب للمشاهدين، وبالنسبة للمخرج آير فلديه طموح أن يخوض تجارب جديدة وخلق بالفيلم عنف مكثف وواقعي، لكن الفيلم مثله مثل كل الأفلام القتالية التي تعتمد على فوضى المعارك والبراعة في تصوير مشاهد إراقة الدماء". ومع ذلك فإن الفيلم تحسس هذه النقطة التي ورطت الجميع في الحرب الوحشية بما فيهم الصغار، وجعلت هذا الصبي الأمريكي يقود دبابة ويرتعش قبل أن يضغط على زر القصف، وحوله رفاقه يصرخون فيه: إضرب .. قم بعملك .. نفِذ كل ما تسمعه يا ولد! ثم نفذ الولد الأمر، وفي مشهد آخر يخبر قائده بأنه خائف، فيرد عليه: وأنا أيضاً خائف!
ملمس الخوف هنا جليّ في مظاهر العنف والقتل التي يشارك فيها الجميع من كل الأطراف، وربما يردنا هذا إلى سؤال قديم يظهر كل حين: هل الجنود كانوا أطفالاً؟! وهو السؤال الذي طرحه أيضاً من قبل الشاعر الفلسطيني محمود درويش في كتابه "شيء عن الوطن" عندما حاول أن يبرز دوافع الكراهية العنصرية التي إجتاحت وطنه فلسطين مع المحتل الاسرائيلي، تساءل درويش: كيف يقدم الجندي على ارتكاب جريمة قتل بدم بارد؟ ثم توغل في البواعث التي وصفها بأنها إنعكاساً لقيم المجتمع الاسرائيلي الذي يمجد كراهية الآخرين ويحتقرهم، من خلال صياغةعقل أطفاله وشبابه بروح العنصرية وكراهية العرب، واستشهد بمناهجهم التعليمية وأدب الأطفال العبري الذي أسهم بالتأكيد في بناء شخصية الجندي الاسرائيلي ونفسيته، فجنود الاحتلال كانوا أطفالاً تربوا على الثقافة المشحونة بالشوفينية والاستعلاء والعداء للعرب.
تعددت الأسباب والعنف واحد منذ نشأة الانسانية والصراع بين قابيل وهابيل: جرائم القتل، الحروب، الإبادة العرقية، الإرهاب.. التاريخ عنيف جداً ويحمل الكثير من الحكايات الموحشة، وأغلبها كرس لفكرة سطوة الأقوى كما يشير الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو حين قال: "إن الأقوى مادياً هو الذي يفرض حقيقته ولو كانت كاذبة"، من هذا المنطلق قد تكون أفلام الحرب العالمية الثانية هي الأكثر غزارة وتعداداً وحضوراً في السينما، وحتى تأثيرها يعتبر الأكبر سواء على مستوى السرد البصري أو الروائي، وإن كانت الأفلام ذات البعد الإنساني لها حضورها الذي لا يمكن إنكاره أو نسيانه، على الأقل مخاطباً الضمير الإنساني (إن كان له وجود من الأساس)، كما فعل المخرج تيرينس ماليك في فيلمه "الخط الأحمر الرفيع" (1998) الذي احتشد بأسماء كبيرة في عالم التمثيل: نيك نولت، جون كوزاك، جون ترافولتا، جورج كلوني، شين بين، جيم كافيزيل وغيرهم ، كما احتشد بعشرات التساؤلات الوجودية التي تفجرها الحرب، وقدم صورة فلسفية عن الحرب والشر والحياة والموت تخللها الشعر:
هـذا الشر العظيم . .
من أين أتى ؟ كيف ظهر على الأرض؟
من أي بذرةٍ نمى ؟ مِن أي جذعٍ نبت؟
من الذي يفعل هذا ؟ من الذي يقتلنا؟
يسلبنا ضوءنا وحياتنا . . يسخر من جهلِنا .
هل خرابنا يفيد الأرض؟
هل يساعد الأعشاب على النمو، أو الشمس على الإشراق؟
المفروض أن فيلم "الخط الأحمر الرفيع" عن معركة استمرت ستة أشهر كاملة خلال الحرب العالمية الثانية، لكنه يجعلك تعيش معه الحاضر؛ فكل ما فيه يشير كذلك إلى الآني، يدور هنا والآن كما يقول الناقد د. أحمد يوسف، موضحاً أنه لم يقتصر على حرب انقضت منذ أكثر من نصف قرن، كما أنه لم يمجد الجندي الأمريكي كعادة الأفلام الأمريكية وإنما يمتد للجميع، مضيفاً:"لا يضع فرقاً من أي نوع بين الإنسان الأمريكي من جانب والعدو من جانب آخر، فهؤلاء وأولئك نفس الوجوه المكدودة النحيلة الغائرة.. يكاد أن يتحاشى في معظم لقطاته، لقطة النظر التي تجعل المتفرج يتوحد مع الجنود الأمريكيين، بأن نرى العالم من خلال أعينهم".
هنا أراد "ماليك" أن يبرز ما تصنعه الحرب من تشوهات في الروح والطبيعة التي نراها بطلاً في هذا الفيلم يماثل البشر، وكل الأشياء تقف على محك خط أحمر رفيع إن تم تجاوزه تكون النتيجة دمار، وهو المسار الحتمي لسموم الحرب التي حوّلت جندياً بكى لأنه قتل إنساناً حتى وإن كان عدوه، إلى جندي شرس يقول لعدوه وهو يحتضر :"سوف أغرز أسناني في كبدك !!".. مشهد شبيه في فيلم وثائقي من إنتاج فرنسي لمخرج من أصل عربي، لا أتذكر اسم الفيلم أو المخرج مع الأسف أو لحسن الحظ، إنه مشهد يستعرض رجلاً ينتمي إلى الجماعات المسلحة في إحدى القرى السورية يرقص فوق جثث جنود من الجيش السوري وهو يرفع البندقية إلى أعلى ويسبهم بأقذر الشتائم، ناهيك عن مشاهد نشرات الأخبار اليومية للدمار في سوريا وليبيا والانفجارات التي لا تنس العراق بين حين وآخر والتي تمارس أفعالها في مدن عربية وأوروبية، أفريقية وأسيوية مختلفة، أما عن اليمن فتحدث وتحرج من صور متداولة لنكبة بشرية حقيقية وأطفال يسابقهم الموت كل لحظة؛ وهم شوكة في قلوبنا لا تجد من يخلعها، لتبقى صورهم في زحمة أخبار الحرب والعنف جرحاً لا يعرف الضماد، هذا غير مراكب الموت التي مازالت تنقل الفارين من جحيم الحروب ليكونوا غرباء في بلاد غريبة، إن استطاعوا الوصول إليها، إنها معادلة البؤس الإنساني في كامل صورته.
وراء كواليس الحروب يأتي مخاض العنف ويولد بتوابعه: الفقر، الفساد، القهر ليكون سمة عصر، عنوان بارز في الشوارع؛ كهذه المشاجرة على قارعة الطريق بين سيدة اصطدمت سيارتها بسيارة شاب لم يملك أعصابه أمام صراخها، فحطم زجاج سيارتها بينما وقف حولهما جمهور المتفرجين الذين أتعبهم العنف في الواقع وعلى الشاشات، وهم يواصلون حياتهم بشعار "أهي عيشة والسلام"، شعار اليائسين والمهزومين، هنا أتذكر ما كتبه يوسف إدريس بعنوان "لا تناقض بين الخبز والحرية" الذي ضمه كتابه "جبرتي الستينات"، حيث قال:"إننا نعترف أننا شعب لا نزال يكافح لكي يضمن لكل مواطن فيه لقمة العيش".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة