لا يتوقف أبدا الحديث عن إيران وصراعاتها، وعن ترقب أفعالها وردود أفعالها، ومؤخرا، يتابع الجميع ما ستقوم به بعدما اغتالت أمريكا قاسم سليمانى رئيس فيلق القدس الإيرانى أثناء تواجده فى مطار بغداد، وكلما اشتعلت الأمور اشتعل الحديث عن "ولاية الفقيه" فما هى هذه الولاية .. هذا ما عرض له الباحث الراحل مصطفى اللباد فى كتابه "حدائق الأحزان: إيران وولاية الفقيه".
كيف نفهم السياسة الإيرانية؟ وكيف استطاعت نظرية "ولاية الفقيه" أن تحكم إيران بذات الشعارات والمضامين دون تغيير منذ أكثر من ربع قرن، يرى المؤلف فى هذا الكتاب أنه لا يمكن للمرء فهم السياسة الإيرانية الحالية دون الإلمام بالجوانب المتعددة لهذه النظرية. ما هو أساسها التاريخى والعقائدى والفكرى؟ ما هو موقعها من التراث الشيعى التقليدى؟ كيف استطاعت تحييد التيارات السياسية الأخرى والوصول للحكم؟ ما التأثير الذى تركه التيار الإصلاحى فى توازنات إيران السياسية والاجتماعية؟ هل يمكن تخطى التناقضات البنيوية فى مفهوم "الجمهورية الإسلامية"؟ وماذا يخبئ المستقبل لإيران من تحديات؟
قضى الدكتور مصطفى اللبّاد ثلاث سنوات فى الإعداد لهذا الكتاب المرجعى محاولا البحث عن إجابات لهذه الأسئلة، وهو حائز على دكتوراه الدولة الألمانية فى الاقتصاد السياسى لمنطقة الشرق الأوسط، وأصدر فى القاهرة مجلة "شرق نامه" المتخصصة فى شئون إيران وتركيا وآسيا الوسطى، الوحيدة عربيا فى تناول هذه المنطقة ككل متكامل، وبفضل دراساته المتعمقة وإلمامه باللغة الفارسية وزياراته المتعددة لإيران، فضلاً عن مشاركاته المتميزة فى المؤتمرات الدولية ووسائل الإعلام، فقد صار أحد عناوين التخصص فى الشؤون الإيرانية بمصر والعالم العربى.
وكتب عبد الرحمن طه تحت عن مصطفى اللباد وكتابه تحت عنوان "من حدائق الأحزان إلى الفردوس" يقول " يشرح اللباد فى المقدمة أن اختياره للعنوان جاء لإعجابه بحدائق إيران، عمارةً وتصميمًا، وكونها جزءًا أصيلًا من الحياة اليومية للإيرانيين. أما عن "الأحزان"، فلأن الحزن الدائم "ركن أساسى فى وجدان المسلمين الشيعة عمومًا، والإيرانيين خصوصًا"، فقد تشكل الوجدان الشيعى بواقعة استشهاد الإمام الحسين بن على فى كربلاء، حزنًا على مقتله ورغبة فى الثأر من أى سلطة دنيوية غاصبة لحكم الأئمة المنفرد بالشرعية.
غير أن هذا السبب العام يضم فى داخله واقعة أكثر خصوصية وتأثيرًا، إذ توجه اللباد لزيارة منزل رئيس الوزراء الإيرانى الراحل محمد مصدق، زعيم الحركة الوطنية الذى أطاح به انقلابٌ محكم – أُعد فى واشنطن – على حكومته المنتخبة ديمقراطيًا، عام 1953. يقول اللباد: «تبدو حديقة البيت مهجورة، وفى وسطها تقف سيارة مصدق من طراز إنجليزى يعود إلى بداية الخمسينيات. هنا إذن تقع «حديقة الأحزان» التى أمضى فيها مصدق إقامته الجبرية التى امتدت لـ 14 عامًا، بـين عـام 1953 حين تم الانقلاب عليه، وحتى عام 1976 حين لقى ربه وحيدًا بين جدران البيت».
يبدأ الفصل الأول من الكتاب بتأصيل تاريخى للعلاقة بين الفقهاء والدولة فى إيران. ويذهب اللباد إلى أن الحياة السياسية فى إيران ترتبط منذ آلاف السنين برجال الدين، منذ الدولة الإشكانية التى ظهرت فى منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، التى ضمت مجلس الحكماء (رجال الدين الزرادشتيين). واتبعتها الدولة الساسانية مستمرة على النهج ذاته، إذ كانت كافة القرارات المهمة تُتَّخذ بموافقة مجلس الحكماء ومجلس شورى العائلة المالكة.
ورغم دخول الإسلام إلى إيران فى القرن السابع الميلادي، وما تلاه من امتزاج الهوية الإيرانية بالهوية الإسلامية الشيعية فى ما بعد، بقيت عناصر كثيرة فى بنية المجتمع على حالها، ومن بينها علاقة الدولة برجال الدين، التى ظلت طوال تاريخ إيران "كالبحر فى حالة مد وجزر" ويعتقد المسلمون الشيعة أن سلطة آل البيت تتدرج من الإمام على بن أبى طالب إلى الإمام الثانى عشر، المهدى المنتظر، محمد بن حسن العسكري. ويؤمنون بأن المهدى المنتظر له غيبتان؛ غيبة صغرى بدأت باختفاء الإمام وانتهت بوفاة آخر وكلائه، وغيبة كبرى بدأت بوفاة وكيله الرابع، وهى ممتدة حتى ظهور المهدى فى آخر الزمان، ليملأ الأرض عدلاً. وفى غياب المهدى ووفاة وكلائه، انتقلت زعامة المذهب الشيعى إلى يد الفقهاء، ليختصوا بـ "المرجعية الدينية"، أى الإفتاء فى أمور الدين والدنيا كافة، باعتبارهم وكلاء الأئمة. وعلى رأس الفقهاء يأتى "المراجع"، وهم الأعلام الذين يُرجع إليهم فى كل الأمور، ورثة الأسرار والعلم من آل بيت النبي.
وتكللت جهود الفقهاء بإعلان مذهب الشيعة المذهب الرسمى لإيران مع قيام الدولة الصفوية فى عام 1501، لتكتسب دولة الشيعة الاثنا عشرية (نسبة إلى الأئمة الاثنى عشر) صفة الاستقرار الزمانى والمكاني، وتصبح المؤسسة الدينية «دولة داخل الدولة»، بعدما كانت دولة موازية، وتضاعف أعداد الشيعة فى إيران بعدما كانت أعدادهم محدودة نسبيًا.
وبعد انهيار الدولة الصفوية، انتهت مرحلة التصالح الدائم بين المؤسسة الدينية والدولة، وأدى استقلال الفقهاء إلى دخولهم فى أحيانٍ كثيرة فى صدامات مع الأفشاريين والزنديين، بل وناصبوا العداء للقاجاريين نظرًا لما يصفه اللباد من مفاسدهم وعجزهم عن توفير الأمن وميلهم إلى فرض ضرائب مجحفة.
وقد أفسح فساد القاجاريين ومنحهم العديد من الامتيازات للأجانب المجال أمام الثورة الدستورية فى 1906، التى انحاز فيها الفقهاء إلى طبقة تجار البازار ومعهم الحركة الوطنية الإيرانية، بهدف فرض الدستور على الحاكم وتقييد صلاحياته وإقرار حقوق الشعب. وقد انتزع الفقهاء عددًا من المكاسب، من بينها نص الدستور على «أن تطابق نصوصه والقوانين المتفرعة عنه أحكام الشريعة الإسلامية»، إلى جانب تحالفها مع الدولة الصفوية لترسيخ مشروعيتها.
وبالمجمل فإن تكون الكتاب من خمسة فصول تغطى مختلف أوجه نظرية ولاية الفقيه. فالفصل الأول يغطى الخلفية التاريخية للتشيع وعلاقة الفقهاء بالدولة الإيرانية. ويهتم الفصل الثانى بمبنى ومعنى "ولاية الفقيه" وتطور النظرية ودور الخمينى فى تطوير مفهومها. يدرس الفصل الثالث مرحلة الوصول إلى السلطة والتطورات التى أدت إلى استبعاد التيارات الأخرى. ويلقى الفصل الرابع الضوء على انتقال السلطة بعد وفاة الخمينى إلى خامنئى وأثر الأخير على النظرية ذاتها وواقع إيران. ويتناول الفصل الأخير دور خاتمى فى تطوير الخطاب الدينى وتغيير التوازنات السياسية، ثم يعرج إلى التحديات التى تواجهها الحمهورية الإسلامية.
ويعتقد الكتاب أن صعود أحمدى نجاد كان تعبيراً عن إتمام سيطرة المحافظين، بقيادة المرشد خامنئي، على كل من البرلمان والرئاسة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة