وفقا لعلماء الاجتماع فإن طبيعة الإنسان فى تعامله مع الواقع الذى يحيا فيه تتمثل هذه الطبيعة فى المقولة المشهورة: «الإنسان مدنى بطبعه».
وفى إطار المدنيّة لابدّ من ظهور أنواع من المصالح الناتجة عن غريزة التملك فضلًا عن العلاقات المتبادلة مع المجتمع والأفراد فتنشأ أقسام المصلحة وتنوعها وفقا لما يحيط بأساس المصلحة الذى بنيت عليه من الملكية والنفع المترتب عليها، ومن ثم تنقسم إلى مصلحة عامة ومصلحة خاصة، فالأولى التى لا يخص بالآنتفاع بها فضلا عن تملكها وأحد بذاته، بل يشترك فى الآنتفاع بها مجموع الناس ومن يعيش على أرض الدولة،والثانية هى التى تقابل ذلك، فالارتفاع فيها خاص بشخص بغية أو أسرة بذاتها فلا يشترك مجموع الناس معهم، نظرا لأن الملكية الناتجة عنها المصلحة ليست للكل ولا للمجموع، بل ثابته لذوات هؤلاء.
والمال العام داخل فى مشمولات المصلحة العامة، وقد قررت الشريعة الإسلامية وجوب المحافظة عليه، شأنه فى ذلك شأن المحافظة على المال الخاص، وفى إطار تقريرها لذلك أوجبت أنّ جملة المصالح المتحصّلة للإنسان فى العموم شأنها فى ذلك شأن المصالح المتحصّلة بالخصوص، فلذا حرمت التعدى والإضرار بكلّ ما يعطّل مصالح الناس، فجاء الحديث النبوى الذى قرر فيما بعد كقاعدة من قواعد الإسلام وهو: «لا ضرر ولا ضرار».
بل جعل الشرع الإسلامى الجزاء الجزيل الواجب لكلّ فائدة بفعلها الإنسان لمجتمعه الذى يعيش فيه، بداية من إزالة غصن شجرة ربما يكون مُعطّلا لمصالح الناس، فجاء فى الحديث الشريف: «أنّ رجلا مر بغصن شجرة على ظهر طريق فقال: والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم، فأدخل الجنة»، وسأل أحد الصحابة يُدعى أبا بَرْزَةَ، قال: قلت يا نبيَّ الله علّمنى شيئا أنتفع به، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: «اعْزِلِ الْأَذَى، عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ» بل جعل الشرع إماطة الأذى من طريق الناس من شعب الإيمان.
فإذا كان الأمر كذلك فى الأمور العامة كالشارع والطريق والمال العام فإن المصلحة التى يمكن أن ينتفع الناس بها منه، مقدّمة بالضرورة على المصلحة الخاصة التى تعود لشخص بمفرده، وفى إطار الاستدلال لذلك وقعت واقعة فى عهد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، مفادها أنّ رجلا من المنافقين اعترض وطعن فى رسول الله صلى الله عليه وسلم كونه من أموال الصدقات بعض ضعفاء الأعراب رعاء الغنم، إعانة لهم، وتأليفا لقلوبهم، فقال: ما هذا بالعدل أن يضع صدقاتكم فى رعاء الغنم، وقد أمر أن يقسمها فى ألفقراء والمساكين، فأنزل الله سبحأنه وتعإلى فى كتابه ردًّا عليه، بقوله:«وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِى الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ» «التوبة: 58، 59».
فوقع الذم فى أمرين: الأول فى كون الاعتراض حاصل لسيدنا رسول الله وهو المعبّر عنه فى الآية بقوله «ومنهم من يلمزك» واللمز معناه الاعتراض بكل ما يمكن أن يفهم من المعارضة فالهمز واللمز والكلام والتصريح كل هذا اعتراض متوجَّه، والثانى أنّ فى الاعتراض حمولة معرفية قائمة على إيثار تقديم مصلحة هذا المنافق الخاصة على ما يراه الإمام فى التوزيع وأنّ هذا التوزيع مصلحة عامة ستعود بالنفع على الجميع، فآثر مصلحته الخاصة على العامة، والإمام الحاكم أناط له الشرع أن يتصرف فى الأشياء والأموال وسائر ما يقع تحت يديه بما يراه محققا للمصلحة، ولا شكّ أنّ المصلحة إذا كانت منقسمة إلى خاصة وعامة فالعامة مقدّمة على الخاصّة بالضرورة كما قررنا.
ولذلك فالقاعدة التى يمكن أن نفهمها فى هذا السياق أنّ تقديم المصالح الخاصة على المصالح العامة التى تعود بالنفع على سائر المجتمع مذمومة، وأن الواجب تقديم المصلحة العامة على الخاصة، كما أنّ الإضرار بالمصلحة الخاصة يكون أهون من الإضرار بالمصلحة العامة الجماعيّة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة