استخدمت تيفانى، ابنة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، شعر المنصوفة جلال الدين الرومى، للرد تسريبات المساعدة الشخصية السابقة لترامب مادلين ويسترهاوت للصحفيين أثناء مأدبة عشاء، تعرضت فيها تيفانى للتجريح بعدما ذكرت المساعدة أن ترامب لا يحب التقاط صور مع ابنته الصغيرة، البالغة من العمر 25 عاماً، لأنه يعتقد أنها زائدة الوزن.
ويبدو أن ابنة ترامب استخدمت نوعا من الشعر كان يستخدمه العرب منذ القدم، فكان لدى العرب ما يعرف بـ"الهجاء" للرد على المتخاصمين، وغالبا ما كان يقوم به الشاعر بالذم والتشهير بعيوب خصمه المعنوية والجسمية، وهو نقيض المدح.
وجاء رد تيفانى على هذا الكلام بشكل غير مباشر، مستخدمة كلمات للشاعر الشهير جلال الدين الرومى الذى عاش فى القرن الثالث عشر الميلادى:
".. تفحصنى كما شئت، لكنك لن تعرفنى أبداً
لأنى أختلف مئات المرات عما تريدنى أن أكون
ضع نفسك وراء عينى لكى ترانى كما أرى نفسي
لأنى اخترت أن أسكن فى مكان لا يمكنك رؤيته.."
ولعل التاريخ العربى ملىء بالأحداث التى تم فيها توظيف الشعر للرد على المتخاصمين من الشعراء، منها المعركة الكلامية التى نشأت باستخدام قصائد الشعر بين جرير والفرزدق امتدت لأربعين عاما، حيث ظل الشاعران الكبيران يتهاجيان ويتشاتمان والشعراء من حولهما فريقان، يتعصب كل فريق لصاحبه ويدافع عنه، ويهجو شـــاعر الفــــريق الآخر، وقد سقط شعراء كُثر فى تلك المعركة ممن انحازوا لكل من الشاعرين ولم يبق منهم سوى الأخطل الذى كان يناصر الفرزدق ضد جرير، وقد حاول الخليفة سليمان بن عبد الملك الصلح بينما دون جدوى، حيث سأل جرير: مالك والفرزدق، فأجاب: إنه يظلمنى، بينما قال الفرزدق: رأيت آبائى يظلمون آباءه، فسرت فيه بسيرتهم، هذا على الرغم من انتماء الشاعرين إلى قبيلة واحدة هى تميم، ولكن الفرزدق كان يتباهى بأهله المباشرين من بنى مجاشع ودارم فى حين كان جرير يهاجم الفرزدق فى عروبته ويعده هجينا.
ومن المعارك الشهيرة أيضا فى هجاء الشعراء، ما حدث بين أبى فراس الحمدانى والمتنبى، حيث سيف الدولة إذا تأخر المتنبى عن مدحه شق ذلك عليه وأحضر من الأخير فيه، وذات يوم قال أبو فراس لسيف الدولة، إن هذا المتشدق كثير الإدلال عليك وأنت تعطيه كل سنة (ثلاثين ألف دينار) عن ثلاث قصائد ويمكن أن تفرق مئتى دينار على عشرين شاعراً يأتون بما هو خير من شعره، فتأثر سيف الدولة مما سمعه من أبى فراس الحمدانى، وكان المتنبى غائباً فبلغته القصة فدخل على سيف الدولة وأنشد أبياتاً فأطرق سيف الدولة ولم ينظر إليه كعادته، ثم حضر إلى مجلس سيف الدولة وأنشدها بين يديه على مرأى ومسمع من الشعراء وأبى فراس، وجعل يتظلم فيها من التقصير فى حقه، يقول:
ما لى أكتم حباً قد برى جسدي
وتدعى حب سيف الدولة الأمم
إلى أن قال:
قد زرته وسيوف الهند مغمدة
وقد نظرت إليه والسيوف دم
فهمّ جماعة بالتعدى عليه فى حضرة سيف الدولة لما رأوا إدلاله وإعراض سيف الدولة عنه، فلما وصل فى إنشاده إلى قوله:
يا أعدل الناس إلا فى معاملتي
فيك الخصام وأنت الخصم والحكمُ
قال أبو فراس قد مسخت قول (دعبل):
ولست أرجو انتصافاً منك ما ذرفت
عينى دموعى وأنت الخصم والحكم.
كما أنه كانت هناك العديد من مواقف الهجاء فى العصر الحديث، منها ما يذكر عن هجاء بين أمير الشعراء أحمد شوفى والشاعر حافظ إبراهيم، حيث تذكر عدد من المواقع وكتاب "حدث بالفعل" للكاتب هشام سليمان، أنه كان يطيب للشاعر حافظ إبراهيم، شاعر النيل، أن يداعب احمد شوقى، أمير الشعراء. وكان احمد شوقى جارحا فى رده على الدعابة. ففى إحدى ليالى السمر بينهما انشد حافظ إبراهيم هذا البيت ليستحث شوقى على الخروج عن رزانته المعهودة:
يقولون إن الشوق نار ولوعـة *** فما بال أرى اليوم شوقى باردا
فرد عليه أحمد شوقى بأبيات قارصة قال فى نهايتها :
حملّت كلبا وإنسانا أمانةً *** فخانها الإنسان والكلب حافظا
الدكتور حسين حمودة، أستاذ الأدب العربى الحديث، بكلية الآداب، جامعة القاهرة، قال إن فى تاريخ الأدب العربى كان الهجاء جزءا مهما من الشعر بوجه عام، لأن الشعر كان، بالمفهوم الشهير، هو "ديوان العرب"، أى سجلّ حياتهم الاجتماعية والسياسية والثقافية، ولأن هذا الشعر ارتبط بوظائف يؤديها فى هذه الحياة.. ومن هذه الوظائف ما اتصل بظواهر "الاحتراب"، والدفاع عن الذات وعن القبيلة، والإعلاء من قيمتهما، فى مواجهة الخصوم الأفراد والجماعات، وفى السعى إلى التقليل من شأنهما.
وأضاف "حمودة" فى تصريحات خاصة لـ"اليوم السابع" شعر الهجاء انتشر فى دائرة ملحوظة من التجارب الأدبية العربية، وازدهر مع عدد من الأسماء، كما نعرف، وبرع فيه من برع من الشعراء، واستكشف له بعضهم مساحات جديدة.. كما هو الحال مع بعض قصائد المتنبى التى صاغها لكافور الإخشيدى، والتى زاوج فيها بين الهجاء ونقيضه، أى المدح.. وقد اقترن شعر الهجاء عموما بأشكال السباب والشتيمة والذم والتحقير، وكلها مفتوحة على مجال السخرية والضحك، وربما كان هذا المجال مما يفسر لنا أسباب انتشار هذا النوع من الشعر، والإقبال على تلقيه، فضلا عن كتابته.. فالسخرية والضحك، أو الكوميديا بوجه عام، من أكبر منابع الفنون فى تاريخ الآداب الإنسانية كلها.. فمن ذا الذى يكره الابتسام والضحك، فى أى وقت من الأوقات؟
وأوضح الدكتور حسين حمودة، والغريب أن العرب الذين لم يعرفوا فى أدبهم فن المسرح بمعناه الخالص، قد عرفوا أحد أشكاله الكوميدية، وتمثّل هذا فى بعض الإرهاصات المسرحية خلال بعض الأشكال المبكرة، مثل "بابات" ابن دانيال، التى احتشدت بألوان من الضحك والسخرية والسباب والتحرر اللفظي..والتى يمكن أن نلتمس فيها معالم للهجاء.. بمعنى ما، فى تاريخ الأدب العربى، كان شعر الهجاء سلاحا وأداة ووسيلة دفاع وهجوم، بما يعنى أنه كان سبيلا من سبل الدفاع عن الوجود، كما تصوره البعض، بالإضافة إلى أنه كان جزءا مهما مما كوّن "ديوان العرب"، ووصلهم بمنابع السخرية والضحك التى كانت ولا تزال منابع ثرة وغنية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة