بدا الكاتب المبدع الدكتور يوسف إدريس مذهولا، لا يعرف، لماذا خرج من سجن القناطر إلى قصر عابدين، وخرج معه من سجن «أبى زعبل» إلى نفس المكان الكاتبان إبراهيم عبدالحليم وفتحى خليل والفنان زهدى.
كانوا ضمن المعتقلين من الحزب الشيوعى المصرى «حدتو» عام 1954، وتزامن ذلك مع المفاوضات الدائرة لتحديد مصير ارتباط السودان بمصر، وكان يقودها صلاح سالم، عضو مجلس قيادة ثورة 23 يوليو 1952 مع كافة الأطياف السياسية فى السودان، ووفقا لأحمد حمروش فى كتابه «قصة ثورة 23 يوليو»، فإن هناك من القوى السياسية السودانية من كان يؤيد بقاء الوحدة بين السودان ومصر، وهناك من كان يرفضها، وكان إسماعيل الأزهرى رئيس الحزب الوطنى الاتحادى، ورئيس الوزراء من 1954 إلى 1956 ممن يعلمون من أجل الاستقلال، واشتعلت المواجهة بينه وبين صلاح سالم.. يذكر حمروش: «التناطح بين الأزهرى وسالم وصل إلى أبعد مدى، وطفت المعركة بينهما إلى السطح، وخطب الأزهرى فى الجماهير يقول: «إن لحم أكتافى من مصر، ودخلتها منتعلا حذاء كاوتش.. ولكن هل يرضيكم أن يحكمنا صلاح سالم والعسكريون فى مصر؟ وتصرخ الجماهير بصوت عال «لا..لا».
يؤكد حمروش، أن صلاح سالم استخدم فى معركته ضد الأزهرى كل الأسلحة المتاحة له إلى جانب انشقاق الحزب «الوطنى الاتحادى» وإثارة الجنوبيين، وقرر التحالف مع الشيوعيين أيضا فى معركته التى تبلورت إلى موقفين واضحين.. إما الاتحاد مع مصر.. وإما الاستقلال الذى أصبح الأزهرى ينادى به علنا».. يضيف: «اتصل صلاح سالم بالشيوعيين السودانيين لما لاحظه من تأثيرهم السياسى فى محاربة الوضع القائم كله.. واتصل فى هذه المرحلة بعبدالخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعى السوداني، والشفيع أحمد الشيخ سكرتير عام اتحاد العمال وعضو المكتب السياسى للحزب، وعندما علم أن الحزب الشيوعى السودانى هو نواة انفلقت من الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى «حدتو»، وعملت لفترة تحت اسم الحركة السودانية للتحرر الوطنى «حستو»، قرر أن يتصل بالشيوعيين المصريين ليساعدوا فى إقناع زملائهم فى السودان، وكان ذلك فى أول سبتمبر «مثل هذا اليوم» عام 1955.
اصطدم قرار صلاح سالم بوجود الشيوعيين المصريين فى السجن، لكنه مضى فى تنفيذه.. يذكر حمروش: «كان الشيوعيون معتقلين والبعض منهم قدم إلى المحاكمة وصدرت ضده أحكام بالسجن، ومع ذلك لم يتردد صلاح سالم فى استدعاء الدكتور يوسف إدريس، وكان فى سجن القناطر، والكاتب إبراهيم عبد الحليم، والكاتب فتحى خليل، والفنان زهدى، وكانوا معتقلين فى سجن «أبى زعبل».
يكشف الكاتب والناقد أحمد عباس صالح، أنه كان طرفا فى هذه القضية، فحسب مذكراته «عمر فى العاصفة» فإنه كان صديقا حميما للضابط «محمد أبونار» نائب صلاح سالم، وكان يتردد عليه كثيرا فى مبنى قصر عابدين الذى كانت تحتل جزءا منه وزارة «الإرشاد القومى».. وكان صلاح سالم وزيرها.. يتذكر صالح: «أذكر أنه جرت مناقشة بينى وبين صلاح سالم حول أن الشيوعيين السودانيين يعملون ضد الوحدة، ولعله كان قد لاحظ توجهاتى اليسارية وتحمسى للوحدة فى نفس الوقت، فأراد أن يفهم على أى أساس فكرى يرفض هؤلاء الوحدة، وأظن أننى تحدثت عن أسانيد نظرية، واستعملت رطانة يسارية تؤيد الوحدة كعمل تقدمى من وجهة نظر اليسار، ولكننى أتذكر أننى كنت متحمسا بالفعل للوحدة، وكان أغلب أصدقائى من اليساريين المصريين يومنون بها، وربما قال صلاح سالم، إنه يعرف أن التكوينات الأولى للنشاط الشيوعى السودانى تمت بمساعدة الشيوعيين المصريين، فإذا كان هؤلاء يؤمنون بالوحدة فلماذا لا يناقشون رفاقهم السودانيين؟».
يتذكر «صالح» أنه رد على سؤال «سالم»: «إنكم تعتقلون الشيوعيين، فكيف تريدهم أن يساعدوكم، فقال متحمسا: قل لى من هم أصحاب التأثير الأكبر على الشيوعيين السودانيين، فقلت إننى لا أعرف، وكنت لا أعرف بالطبع، وربما قلت له إن على أن أسأل، وأذكر أننى لجأت إلى الشاعر كمال عبدالحليم، الذى كان مسؤولا كبيرا فى حركة «حدتو»، وعرفته بمحمد أبى نار، فرشح له مجموعة من الشيوعيين المعتقلين على أنهم كانوا مسؤولين فى التنظيمات الشيوعية عن المسؤولين السودانيين «الشيوعيين» الحاليين، وأعطاه بعض الأسماء، منهم أخوه الكاتب إبراهيم عبدالحليم».
يعترف صالح: «أدركت أن المسألة كلها اجتهاد من كمال عبدالحليم للإفراج عن المقربين إليه، فقلت فى نفسى، لماذا لا أستفيد أنا من هذه الفرصة فأضع اسم صديقى يوسف إدريس الذى كان معتقلا منذ أكثر من عام ونصف العام، فقلت لأبى نار أن يضع اسم يوسف إدريس من الذين ينبغى الإفراج عنهم للمساعدة فى إقناع السودانيين بصواب الدعوة إلى الوحدة».. يؤكد «صالح»: «بالفعل وضع الاسم وتم الإفراج عن الأربعة أو الخمسة المختارين».
فماذا حدث بعد الإفراج، وهل سافروا إلى السودان فعلا؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة