كان عاشقًا سيء الحظ، شاعرًا يرمى البلاغة والكلمات بكلاتا يديه، لينجب قصيدةً للحب والحرب فى أن واحد، يهتف بكلماته المناضلون ويهمس بأبياته العاشقون، وعلى شطر قصائه يحلم السكارى، يكتب عن الحب بقلبه، وعن الحرب بدمه، مبدعًا هنا، وبارعًا هناك.
عاش محمود درويش حياته، لاعب نرد، ابن "الجدة الشجرة"، كان دائما يحن لخبز أمه، "عاشق فلسطين" قدم "أغنية حب على الصليب"، و"عن الصمود" وكان "جنديًا يحلم بالزنابق البيضاء"، أحب "ريتا" وخاطبها "أنا آت إلى ظل عينيك" و"أحبك أكثر"، ثم قال "هى فى المساء" وحين طال الليل أدرك أنها "لن تأتِ"، قبل أن يرثيها فى آخر المعركة بقصيدته الشهيرة "ريتا والبندقية"، وظن أنه قادرًا على تحدى مرضه فقال، :"وها أنا ذا أستطيع الحياة إلى آخر الشّهر.. أبذل جهدى لأكتب ما يقنع القلب بالنّبض عندى.. وما يقنع الروح بالعيش بعدى.. وفى وسع غاردينيا أن تجدّد عمرى.. وفى وسع امرأة أن تحدّد لحدى".
لكنه حينما أدرك المصير، داعب الموت فى "جدرايته"، "أيها الموت انتظرنى خارج الأرض.. انتظرنى فى بلادك ريثما أنهى.. حديثاً عابراً مع ما تبقى من حياتي"، ليودعنا فى مثل هذا اليوم 9 أغسطس عام 2008، وينتقل إلى "متْرانِ من هذا التراب سيكفيان الآن … لى مِتْرٌ و75 سنتمتراً.. والباقى لِزَهْرٍ فَوْضَوى اللونِ.. يشربنى على مَهَلٍ".
كانت "الجدارية" آخر ما كتبه شاعر القضية الفلسطينية، وخشى ألا يعيش ليقرأها فأسماها "جدارية"، وكان يرى أنها تستحق أن تعلق على الجدران، لأنها لخصت صراعاته المتعددة فى الحياة خصوصا صراعه مع المرض.
ترك محمود درويش وراءه نتاجًا شعريًا عظيمًا، عقد من خلاله عهدًا مع الخلود، استطاع بكلماته أن يواكب حركة نضال شعبه ووطنه وأمته فكان يتطور مع كل حدث، ليظل رمزاً للحق والعدالة والتحرر وقهر كل شروط الحصار والعزلة التى فرضها الاحتلال الإسرائيليى فلسطين المحتلة.
وُلِدَ عام 1941 بقرية البروة ثم انتقل مع عائلته إلى لبنان بعد نكبة 1948 وعاد إلى فلسطين بعدها بسنتين متخفيًا ليجد أن قريته قد دُمِرت، فعاش فى قرية الجديدة ثم انتقل فى شبابه إلى موسكو للدراسة، وذهب ليعيش فى القاهرة ومنها إلى بيروت ثم تونس وباريس، قبل أن يعود ليعيش أواخر حياته فى مدينة عمان الأردنية ورام الله الفلسطينية.
وعن حياته فى القاهرة يقول: "وجدت نفسى أسكن النصوص الأدبية التى كنت أقرؤها وأعجب بها، فأنا أحد أبناء الثقافة المصرية تقريبًا والأدب المصرى، التقيت بهؤلاء الكتّاب الذين كنت من قرائهم وكنت أعدّهم من آبائى الروحيين، التقيت محمد عبد الوهاب، وعبد الحليم حافظ وسواهما، والتقيت كبار الكتاب مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم. ولم ألتق بأم كلثوم وطه حسين، وكنت أحب اللقاء بهما".
لم ينتظر درويش الموت حتى يستعيد صفاء ذهنه، بعدما اشتد مرضه وشعر أنها النهاية، وقرر الأطباء المعالجون، إجراء جراحة قلب مفتوح، وهو ما لم يوافق درويش عليه إلا بعد أن أخذ عهدا على الأطباء بألا يتركوه على أجهزة الإنعاش إذا ساءت حالته ودخل فى غيبوبة، وأن يقوموا بإزالتها لكى لا ينتظر الموت بل يذهب هو إليه.
أجريت له عملية قلب مفتوح فى مركز تكساس الطبى بالولايات المتحدة الأمريكية، وتوفى فى 9 أغسطس 2008بعد إجراءها، حيث دخل فى غيبوبة أدت إلى وفاته بعد أن قرر الأطباء نزع أجهزة الإنعاش بناءً على وصيته، وهو يقول فى وداع:
وكأننى قد متّ قبل الآن!
أعرف هذه الرؤيا، وأعرف أننى أمضى إلى ما لسْتُ أعرف.
ربّما ما زلت حيّاً فى مكان ما، وأعرف ما أريد
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة