معروف أن السينما المصرية على مدار تاريخها الطويل ليست بمعزل عن التأثر بإنتاجات هوليوود الضخمة، وربما كان هذا هو الحال منذ أن وصلت السينما إلى مصر منذ بداية القرن العشرين، واستمر هذا الحال في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، فانتشرت أفلام تحكي عن قصص الحب في القصور بين فاتنات السينما وأكثر رجالها أناقة، ثم تأثرت بالطبع بعصر الأفلام الغنائية، وحاولت تقليدها إلى حد كبير، وصولا لعصر سينما المؤلف والموجة الواقعية التي اجتاحت العالم ومنها مصر في السبعينيات والثمانينيات وأوائل التسعينيات، إلى أن وصلنا إلى أفلام "الأكشن" التي أصبحت تمثل نوعا من الشغف لدى الشباب حاليا.
في أفلام الأكشن تعتبر الحبكة السينمائية من أهم عناصر الإثارة والتشويق، تماما كما جاء في فيلم "كازابلانكا"، الذي اعتمد كثيراً على المبالغة فى تعقيد الحدث الرئيسى بحيث انطوى الحل على تحد كبير لشخصيات العمل، لذا ركز "بيتر ميمي" على الحبكة كخطوة ناجحة يؤكد بها قدرته على تقديم أفلام حركة تقترب كثيراً من مستوى أفلام هوليوود العالمية، ولعل "أمير كرارة" أكد هنا في هذا الفيلم أنه نجم الحركة القادم بقوة ودون منازع، بل إنه الأسطورة الشعبية الجديدة، وربما الوحيدة، التى يمكن أن توقف أسطورة "محمد رمضان" المستفزة لقطاع كبير من الجمهور، خاصة أن "كرارة" يتمتع بكاريزما تحظى بالقبول لدى كل الفئات فى المجتمع، وليس فئات بعينها كما فى حالة "رمضان" التي تجنح نحو العنف.
على مدار (113 دقيقة) من الأكشن والتشويق والإثارة، خطف "كازابلانكا" أنفاس الجمهور في سيناريو جيد لـ "هشام هلال" من خلال قصة لم تخل من جرعات الكوميديا، وهو الأمر الذي أضفى نوعاً من الطرفة والضحك تم توظيفهما لمتعة المشاهد، لكن تبقى الحبكة التشويقية للفيلم هى فرس الرهان في تفاعل الجمهور مع سرعة الأحداث لشريط سينمائي يحكى قصة الثلاثى "عمر المر - أمير كرارة"، و"رشيد - إياد نصار"، و"عرابى - عمرو عبد الجليل"، بحيث يبدو بينهم حكايات وخطوط درامية استخرج منها الجمهورعدة رسائل أبرزها "الخيانة صعبة"، ولعل الحبكة الدرامية تجعلك هنا تصاب بدهشة وذهول خاصة فى مشاهد الثلاثى معاً، فضلا عن المشاهد المؤثرة بين "عمر المر" - أمير كرارة، وشقيقه الأصغر "زكريا" - أحمد داش، والتي جعلت الجمهور يبكى معهم بكاءا مرا في ثنايا الأحداث.
أما الإنتاج لـ "وليد منصور وشركة سينرجى" ، فقد حلق بالفيلم إلى أعلى مستوى، وهو ما ظهر لنا مجسدا على الشاشة من خلال ثراء مواقع التصوير والسفر إلى أكثر من مدينة " الإسكندرية - بيروت – الدار البيضاء" ، وأيضا كثرة النجوم الذين ظهروا كضيوف شرف مثل "مصطفى شعبان ونيللى كريم"، فضلا عن وجود نجوم عالميين على قدر كبير من الجودة مثل التركى الشهير "هالت أرجنتش".فضلا عن العناية الخاصة بتقديم مشاهد الأكشن بجودة فائقة، لذا وفرت جهة الإنتاج فريق عمل "بلغاري" على درجة عالية من الفتنة والإبهار، وهو ماظهر في مشاهد مطاردات السيارات فى البحر والميناء التى صورت فى الإسكندرية، وأيضا مشاهد المطاردات فى لبنان، و وضعت الفيلم فى مكانة ومبهرة عن باقى الأفلام المتواجدة فى سباق "الأكشن" لهذا العام، لذا احتل "كازابلانكا" المرتبة الأعلى في تاريخ إيرادات السينما المصرية"76 مليون جنيه.
رأي الشخصي أن الحوار كان من أهم عناصر جودة "كازابلانكا"، فاللغة المستخدمة كما بدت لي تعد مفرداتها فريدة في نوعها، وربما يكمن السر في ذلك أن مصدرها قادم من وحي ما يتردد في الشارع المصري في اللحظة الراهنة، أو جراء مايدور بين الشباب "المخلص"، كما تسميتها كذلك بـ "اللُغة الدارجة " وهو ما قد تلحظه جيدا في أثناء مشاهدتك الإعلان الرسمي للفيلم، من خلال جمل تتردد على لسان كثير من شباب هذه الأيام، مثل "أخوكي سندال- العركة لو ابتدت حتزعل - إللي ليه الحق مايخدوش بالحديد"، وغيرذلك من تعبيرات أصبحت دراجة.
وللحقيقة برع "هشام هلال" في رسم الشخصيات بشكل منطقي ومتسق تماما مع طبيعتها، فلا أحد منهم طيب بالكامل أو شرير خالص، ولكن لهم عيوبهم كبشر عاديين، وطبيعة ملتوية أحيانا مناسبة لكونهم في النهاية مجموعة مجرمين من الدرك الأسفل للمجتمع، وبالطبع تربط بينهم علاقات مختلفة، ربما كان أفضلها على الإطلاق ما بين "عرابي" - عمرو عبد الجليل" و"زكريا" - أحمد داش، أخو "عمر المر" - أمير كرارة، و كذلك علاقة زكريا بأخيه، فهذا المثلث المشتبك كان مصدر الدراما الحقيقية التي تتفاعل في النهاية لتحرك اللأحداث، ولقد تم التناول من جانب "هلال" بشكل ناضج غير مستخف ولا سطحي، بحيث حافظ بدقة متناهية على السياق العام للأحداث، ولعل ما حقق النجاح أكثر هو اختيار "هلال" أن يبدأ أحداثه براوي عليم، تابع معنا عن طريق "فلاش باك" قصة أحد الجرائم السابقة لـ "المر" وأصدقائه، وفقدهم لزميلهم "المكسيكي"، وكيف أثر كل ذلك على علاقتهم فيما بعد من خلال أحداث تتسم بالمفارقات المذهلة، واستمر هذا الرواي يظهر بين الحين والآخ في في سياق أحداث سريعة ومتعاقبة.
وعلى مستوى الإخراج، نجح "بيتر ميمي" بمساعدة الموسيقى التصويرية لـ "أمين بوحافة" في الاهتمامِ بالتفاصيل الخاصة بأفكار مشاهد "الأكشن" حتي وإن كانت تتسم في بعض الأحيان بالتقليدية، ولكن ذلك لم يتسبب على الإطلاق في إصابة عشاق تلك الفئة من أفلامِ "الأكشن" بأي نوعٍ من الإحباط ، فلقد بقيت تلك المشاهد تحمل في طياتها الكثير من الزخم الذي يحتاجه صناع أفلام "الأكشن"، لذا فقد تمكنوا من تقديمِ تجربة جديدة ومختلفةٍ في صناعة أفلام الحركة تندرج ضمن منظومة صناعة السينما الحالية، تلك التي تحتاج إلى سرعة البدء في عمليات الإحلاِل والتجديد في دمائها على نحو أكثر عصرية.
تبقي لي ملاحظة مهمة في هذا الإطار، فرغم أن معالجة "بيتر ميمي" تحمل روح هذا "الأكشن"، مع الاحتفاظ بحبكة منطقية إلى حد كبير، ومشاهد "أكشن" تسير في خطوط متقاطعة لصراع مجموعة من لصوص البحر على ثروة تظهر ما في النفس البشرية من خيانة وطمع، لكن كان ينبغي عليه إدراك أن كثرة تقطيعات مشاهد الاكشن وعدم ضبط إيقاعها من اللازم قد أصاب المشاهد بحالات من التوتر، فهى تارة تبدو سريعة وتارة أخرى تتسم بالبطئ، لذا كان عليه أن يتوخي الدقة، ومراعاة التوازن في الإيقاع العام للسياق الدرامي للأحداث.
هذا التوازن يعد من أهم عناصر نجاح أي عملٍ سينمائي، لذا فإن معدلات الخطأ في تلك المشاهد قد بدا واضحاً للجمهور - مع الأسف – ومن ثم يبقى التمسكِ بمراعاة أفكار "الأكشن" المعتادة أمرا مقبولا، ولكن اللعب بأساليب المونتاجِ في الفيلم قد فتح بالفعل بابا آخر للإنتقاد من جانب رواد مواقع التواصل الإجتماعي الذين يراقبون جيدا، وباتوا نقادا أصبح همِهم التدقيقِ في كل كبيرة وصغيرةٍ تخص السينما المصرية في وضعيتها الحالية مقارنة بالسينما الأمريكية التي أصبحوا يشاهدونها عن كثب، ومع ذلك تبقى المتعة في هذا الفيلم تنبع في الأساس من قدرته على صنع تتابعات "أكشن" يمكننا تصديقها، وفي نفس الوقت يمكنها مفاجأتنا، تتابعات لا تخلو من خفة دم "عمرو عبد الجليل"، وظهور مكرر لجمل حوارية مصرية تحمل المعنى ونقيضه، ومن ثم هكذا نصبح أمام معالجة لأكشن هوليوودي بروح مصرية.
أما عن الأداء، فيبدو لى أن نجومية "أمير كرارة" جعلته يستند إلى إرادة جماهيرية، نظرا لأنه النجم أكثر قربا الآن من قلوب الناس، كما أنه أصبح لديه قدرة تمثيلية مكنته مؤخرا من التلوين في أدائه مع الكثير من مشاعر الانتقام، وباعتباره بطل العمل، فقد استطاع أن يخلق نوعاً من التوافق مع مخرج العمل "بيتر ميمى"، وإن اشتراكهما فى أكثر من عمل جعلهما ينسجمان، وظهر ذلك جلياً على الشاشة، سواء فى الأعمال الدرامية أو الأعمال السينمائية، فهو في هذه المرة ليس الضابط الذي ينقذ الجميع ويحمي الضعيف، بل نجح ببراعة وقدرة جسدية فائقة تتمتع بالقوة والخشونة في تقديم شخصية مجرم يتزعم تنظيم عصابي لسرقة البواخر، كما أن لديه في الوقت ذات جانب لين هو أخيه الصغير المسئول عنه.
وبالمناسبة كان من الممكن أن يستغله الكاتب ليظهر لنا الناحية المثالية في شخصية "عمر المر"، ولكنه التزم بالمنطق والمعقولية في هذه الجانب من تكوين شخصيته فأظهر أن النوايا الحسنة ليست كل شيء، وأن "المر" قد يكون محبًا لأخيه، لكنه تبعا لطبيعة الشخصية والخلفية القادم منها بالتأكد لا يتبع أساليب التربية الإيجابية والتواصل مع هذا الأخ، وهذه النقطة كانت مسئولة عن تحول درامي مهم وممتاز بعد ذلك في سياق الأحداث، ويظل اللافت للنظر في أداء "كرارة" أن اللوحة التى قدمها مع "بيتر ميمي" نجحت نتيجة بساطتها وتقديمها فى قالب مسل ولطيف، إضافة لتنفيذها الصراع القائم داخل الأحداث من خلال خليط ممزوج بأفلام المغامرة و"الأكشن" إلى جانب الكوميديا التي خففت كثيرا من حدة التوتر المصاحب لمشاهد الأكشن العنيفة.
وبغض النظر عن ضعف العنصر النسائي، هنالك شخصيات أخرى برعت في أدائها في هذا الفيلم وبالطبع يأتي على رأس تلك الشخصيات "رشيد" المتهور حاد المزاج لكنه في نفس الوقت يمتلك القدرة على التلاعب بمن حوله عبر لغة جسد خاصة جعلت المشاهد ينتابه الشكوك حوله منذ البداية، هل هو عدو أم صديق؟، وزرع هذه الشكوك ببراعة كاتب السيناريو، وهو ما انعكس بالضرورة على أداء "إياد نصار" الذي كان يرتفع وينخفض مع انفعالات الشخصية ليجعل الشخصية لامعة بالفعل داخل الفيلم، ليؤكد على أنه يمتلك موهبة لا غبار عليها، لكنها دوما تحتاج إلى نص جيد مفعم بالتفاصيل التي تؤكد تألقه، فضلا مخرج يتمتع بحساسية عالية تستطيع استخراج طاقته الإبداعية الكامنة بداخله طوال الوقت.
كما يبدو ملحوظا حسن الأداء لـ "عمرو عبد الجليل"، ذلك النجم الكوميدي الذي لم ينل تلك المكانة الكبيرة في قلوب من الناس بسهولة أو من فراغ، بل هى نابعة بالفعل من موهبته الفذة وقدرته علي تقمص الشخصية، فقد تألق فى دور "عرابى" الذى يعمل سارق سيارات، ولعل إفيه "عزة.. يا عزة.. انتى فين يا عزة".. كان من أحد العلامات البارزة ضمن أحداث "كازابلانكا"، والذي جعل منه نجما له إطلالة مميزة إلى حد أنه يصبح بإمكانه ببساطة أن يسحب البساط من تحت أقدام بقية أبطال العمل الذي يظهر من خِلاله، ولنا في مسلسل "طايع" خير مثال على ذلك، عندما أثبت جدارته رغم أنه ليس بطل المسلسل.
وقد اكتملت الخلطة السحرية في "كازابلانكا" بظهور النجم العالمي التركي "هالت أرجنتش" في دور لا يمكننا وصفه بأنه شرير كلاسيكي، على العكس فالرجل يبدو خصما صاحب هيبة وكاريزما، وقد أتقن الإنجليزية بلكنة روسية مميزة، وبالتالي كان مناسبا جدا للدور بأداء جيد للغاية، على عكس ممثلين كثر أجانب ظهروا مؤخرًا في السينما المصرية في أدوار صغيرة جذبا لأنظار الجمهور فقط، ولم نشاهد منهم أداء يذكر، سوى بضعة معارك هزلية ينتصر فيها البطل في النهاية لأنه البطل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة