ينشر اليوم السابع نص كلمة فضيلة الإمام الاكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف ،بمناسبة احتفال مصر بليلة القدر بحضور الرئيس عبد الفتاح السيسى.
وجاء نص الكلمة كالآتى: بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام على سيدِنا رسول الله، وعلى آلِه وصَحبِه ومَن اهتَدى بِهُدَاه.
سيادة الرئيس/ عبد الفتاح السيسى -رئيسَ جمهورية مصر العربية حفظه الله وأعانه.
الحَفْلُ الكَريم!
السَّلام عليكُم ورحمة ُاللهِ وبركاتُه؛
يَطيبُ لى أنْ أبدأَ كلمتى بأنْ أتقدَّمَ إليكُم، سيادَة الرَّئيس!، ولشعب مصر الأبى، ولعالمنا العربى والإسلاميِّ: قادةً وشعوبًا، بأصدق الأمانى وأخلص التهانى بهذه المناسبة الكريمة؛ مناسبة الاحتفال بليلة القَدْر، ليلة تنزُّل القرآن الكريم من الله تعالى على قلبِ نَبيِّه محمَّد ﷺ ليُبَلِّغه للناس، مصباحًا ينير لهم طريق الحق والخير، ويهديهم به سُبُل السَّعادة فى الدُّنيا والآخرة..
هذا وإنَّ الحديث عن القرآن الكريم الذى هو آخر التزلات الإلهيَّة، حديثٌ لا يستوعبه الزَّمان ولا يحصره المكان، لأنه يتعالى إلى ما فوق الزمان وما فوق المكان، ويتسامى إلى ما بعد العقول، ويذهب بعيدًا إلى ما وراء التاريخ ومطارح الوهم والخيال.. وقد تكفل الله بحفظه وصيانته وحراسته، ولم يترك أمره إلى أحد من البشر لا من الأنبياء ولا من غيرهم.
وكما تفرد الله تعالى بتنزيله تفرد بحفظه: ▬إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ♂ [الحجر: 9]، والعارفون بالقرآن وبأسرار بلاغته يدركون ما اشتملت عليه هذه الآية القصيرة من أساليب التأكيد بالحروف وبالإظهار فى موضع الإضمار، وقد صدق الله وعده فقيض لهذا الكتاب من وسائل الحفظ فى الصدور وفى السطور ما لم يقيَّض لأى كتاب آخر من الكُتُب، وقد مرَّ على نزول هذا القرآن ما يقرب من خمسة عشر قرنًا من الزمان، وجيوشُ المتربِّصين به ساهرة تلتمس فيه العيوب وتُفتِّش عن الهفوات، إلَّا أنَّ أحدًا منهم لم يظفر ببغيته فلم يستطع أن يُسَجِّلَ عليه هفوة واحدة يأباها العقل السليم، أو انحرافًا تضيق به الفطرة المتزنة، أو خطأً واحدًا يصدم ثوابت العلم وتجاربَه المستقرَّة.
هذا الكتاب الكريم حرَّر ضمير الإنسان من عبادة الأحجار والحيوانات والأشخاص، وعَقْله من الأوهام والأساطير والخرافات، وتسامى بنفسه ومشاعره فوق رهق المادَّة وعبوديَّة الغرائز، وإغراء الشهوات واسترقاقاتها.
وهذا الكتاب المجيد صنع رجالًا، بل صنع أمة نقلها –على ضعفها وبساطتها ورثاثة حالها– من المحليَّةِ إلى العالميَّةِ فى غضونِ عقودٍ قليلةٍ، واستطاعت أن تنشر فى شرقِ الدُّنيا وغربِها حضارةً لايزال دَيْنها ثقيلًا فى أعناقِ صُنَّاع حضارة اليوم، ورموزِها وفلاسفتها وعلمائها ومفكريها، وكانت حضارةً معجزة بكل المقاييس لايزال علماء التاريخ فى الغرب قبل الشرق فى حيرة من أمر تفسيرها.
والحديث عن هذا الدَّيْن الحضارى الإسلامى الذى يجازَى أهلُه اليوم جزاء سينمار حديث طويل، وهو أقرب إلى أن يكون حديثًا عن طبيعة «اللِّص» الذى يعيش على مقدَّرات الناس، ثم يكره أن يذكرهم بكلمةِ شُكرٍ أو تقدير، أو عرفان بالجميل.
وأنا أقصد هُنا جزاء الأمة العربيَّة والإسلاميَّة فى مرآةِ الغرب الحديث، وما تمخَّضت عنه قيمه الحضارية فى باب سداد الديون، والاعتراف بالجميل لأصحابِه.. أقصد هذا المصطلح الكريه الذى نجح فى تصوير الإسلام بصورةِ الدِّين المتعطِّش لسَفْكِ الدِّماء، ومُطالبة العالَم المتحضِّر بتعقبه والإجهاز عليه أنَّى وجده فى غربٍ أو فى شرق.. أتحدَّثُ عن «الإسلاموفوبيا»، تلكم الكلمة اللقيطة والتى ما فتى علماء المسلمين ومفكروهم الأحرار يفندونها ويكشفون عن زيفها وتهافتها منذُ أكثر من خمسة عشر عامًا فى ندوات ومؤتمرات وأوراق علميَّة ونقديَّة وحوارات الأديان والحضارات -دون أيَّة ثمرةٍ تُذْكَر فى لجم الآلة الإعلاميَّة الغربيَّة، وردعها عن غرس كراهية الإسلام، فى عقول الشعوب الأوروبية والأمريكية وقلوبهم. وبأساليبَ متعدِّدةٍ ما بين أفلام وبرامج وكُتُب وروايات وصحف ومجلات وغيرها.. هذه الكلمة التى تعني: «التخويف من الإسلام» أو «صناعة التخويف من الإسلام»، ما كان لها أن تتجذَّر فى ثقافة السِّياسيين والإعلاميِّين الغربيِّين، ثم فى وعى جماهير الغرب لولا التمويلُ الضَّخم المخصَّصُ لدعمِ الاستعمار الحديث وسياستِه فى الهيمنة والتوحش والانقضاضِ -الجديد- على ثروات العالَميْن: العربى والإسلامى، بل لولا تقاعسنا –نحن: العربَ والمسلمين- عن التصدِّى الجاد لمطاردة هذا المصطلح، والاحتجاج عليه رسميًّا وإعلاميًّا، ومن المؤلم أن أقول: إن لدينا من الإمكانات الماديَّة والإعلاميَّة ومن هذا السيل العرم من محطاتنا وأقمارنا الفضائية ما يمكن أن ننصف به هذا الدِّين الذى ينتمى إليه أكثر من مليار ونصف المليار مسلم.. ولكنَّا آثرنا اهتمامات أخرى زادتنا ضعفًا وهوانًا، وأطمعت فينا أممًا تداعت علينا كما تتداعى الأكلة على قصعتها.
إنَّنا حتى هذه اللَّحظة لا نسمع عن فوبيا المسيحية، ولا فوبيا اليهودية ولا البوذية ولا الهندوسية. ويقينى أنَّه لن تجرؤ جريدة أو قناة أو برنامج فضائى لا فى الغرب ولا فى الشرق على مجرَّد النطق بفوبيا ما شئت من المِلَل والنِّحَل والمذاهب فالعصا غليظة وحاضرة.. مع أنَّ التاريخ يَشْهَد على أنَّ الأديان كلَّها نُسِبَت إليها أعمال عُنف، وأن من هذه الأعمال ما اُقترف تحت لافتة ديانات كبرى فى العالم.. وفى قلب أمريكا نفسها، غير أنَّ المقام لا يتَّسِع لسَرْدِها..
وعلم الله أننا لا نريد تأريث الأضغان، ولا بعث الكراهية بيننا وبين إخوتنا من أبناء الأديان والمذاهب فى الغرب فهذا ما يأباه علينا الإسلام، ولكنا أردنا فقط أن نتوقَّف عند نقطة فارقة يندر إلقاء الضوء عليها من المسلمين وغير المسلمين؛ وهي: أننا حين نَذْكُر المجازر البشعة التى تعرَّض لها المسلمون على أيدى أبناء الأديان الأخرى - فإنَّنا لا نُحمِّل الدِّين المسيحى ولا المسيح عليه السلام ولا موسى عليه السلام ذرَّة واحدة من المسؤولية، ولا نصم دينًا من الأديان بوصمة الإرهاب والعُنف والتوحش، بل نظل على وعى عميق بالفرق الهائل بين الأديان وتعاليمها، وبين سماسرةِ الأديان فى أسواق السِّلاح وساحات الحروب..
ونحنُ نعلمُ أن المسلمين دَفَعُوا ثمنًا فادِحًا من دمائهم وأشلاءهم فى الحروب الصليبيَّة، وفى فلسطين وما حولها منذ عام 48 وحتى اليوم وكذلك فى البوسنة والهرسك وفيتنام والفلبين والهند وميانمار ونيوزيلاندا، ومع ذلك لم يجرؤ مُؤرِّخ ولا كاتب مسلم أن يتفوَّه بكلمةٍ واحدةٍ تُسئ إلى المسيحية أو اليهودية كأديان إلهيَّة، لأنه يعلم أن كلمة واحدة من هذا القبيل تخرجه من الإسلام قبل أن تخرج من فمه.
ونقطة فارقة أخرى تظل حجر عثرة فى طريق الحوار بين الإسلام والغرب هي: حرص رؤساء المسلمين وملوكهم وأمرائهم وعلمائهم ومفكريهم على إدانة جماعات الإرهاب، بكُلِّ لافتاتها وانتماءاتها، والحكمُ الجازم عليهم بأنَّهم فِرَقٌ ضالَّةٌ مارقةٌ من الدِّين كما يمرق السهم من الرمية، وأنَّ جرائمَهم ومجازرهم إنَّما تحصد من أرواح الأبرياء من الرِّجال والنِّساء والأطفال المسلمين أضعاف أضعاف ما تحصده من غير المسلمين.. ومع ذلك لم يفلح كل ذلك فى تصحيح صورة الإسلام والمسلمين فى نظر الغرب وأمريكا، لأن المطلوب هو: "إدانة الإسلام" ورميُه بأفظع البذاءات والاتهامات وتصويره بأنه "دين قادم من عصور الظَّلام، يعادى المنطق والحداثة، وأنه النظام الثقافى الوحيد الذى ينتج القاعدة وداعش وأخواتها وحفدتها، وهو دينُ صُوَرِ الانتحـاريين، واختطاف الطـائرات، والاغتيالات والانتفاضات، إلى أوصاف أخرى يعف اللِّسان والمقام عن ذكرها.
سِيادَة الرَّئيس!
لقد سعدتُ وسعد الأزهر الشريف بعلمائه وطلابه وهو يستمع لحديثكم المتزن الجريء، فى مؤتمر القِمَّة الإسلاميَّة بمكـة المكرَّمة أول أمس، والذى لمستم فيه -بحكمة- جرح الأُمَّة النازف بسبب ما اُبتليت به من جماعات العُنف والإرهاب، فى الشرق وبسبب الإسلاموفوبيا وأكاذيبها فى الغرب، وطالبتم كل المؤسَّسات المعنية بالتصدِّى لوباء الإرهاب، كما طالبتم بوقف خطاب الإسلاموفوبيا وكراهية العرب والمسلمين، والذى لم يَعُد مقبولًا لا إنسانيًّا ولا حضاريًّا، فجزاكم الله سيادة الرَّئيس عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
والأزهر الشريف وهو يؤكِّد على ما طالبتم به -سيادة الرئيس!- فإنه ليطالب علماء المسلمين، ويطالب إخوتهم من رجالات الكنائس فى الشرق والغرب أن يبذلوا الجهود المنظمة من أجل مكافحة هذه الأكذوبة الماكرة الخدَّاعة، فما كان الإسلام يومًا إلَّا دعوة سلام وتراحم بين النَّاس.
وفى نهاية كلمتى أوجه حديثى إليكم سيادة الرئيس:
إنَّ الأزهرَ الشريف لَيعلم ويُقدِّر جَيِّدًا ما تبذلونه من جهودٍ كبيرةٍ من أجلِ تحقيقِ آمال الشَّعب وتطلُّعاته إلى عيشٍ كريمٍ، ومستقبل أفضل وعدالة اجتماعيَّة أرحب.
كما يُقدِّرُ جهودكم فى استعادَةِ مِصْرَ دورَها الرَّائد فى المحيطِ العربى والإفريقى والإسلامى.
وإنَّه لا يَخْفَى على أحدٍ ما تمر به منطقتنا العربيَّة والإسلاميَّة من مخاطر وظروف صعبة تستدعى استمرار جهودكم مع إخوانكم حُكَّامِ العرب والمسلمين للعبور بمنطقتِنا من هذه الفترة العصيبة ولتحقيقِ السَّلام والاستقرار للشُّعوب.
والأزهر الشَّريف بعلمائِه ورجالِه وطُلَّابه وانتشاره فى إفريقيا وجنوب شرق آسيا، ومكانتِه فى نفوس العرب والمسلمين لَيدعمكم -سيادة الرَّئيس!- ويُقدِّرُ جهودكم ويَشدُّ على أيديكم فى هذه المرحلة الدَّقيقة.
نَسْأل الله فى هذه اللِّيلة المباركة أنْ يُوفِّقَكُم -سيادة الرَّئيس!- وأن يُعينكم على تحقيقِ آمال مصر والمصريِّين، وأنْ يُوفِّقَكُم لما فيه خَيْر البِلاد والعِبَاد.
وكل عام وحضراتكم جميعًا بخير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة