بضغوط وتحت تهديدات من الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، أعلنت اللجنة العليا للانتخابات بتركيا فى الـ6 من مايو الجارى إلغاء نتيجة انتخابات بلدية إسطنبول التى فاز بها أكرم إمام أوغلو مرشح حزب الشعب الجمهوري، خطوة اعتبرتها المعارضة التركية انقلابا على الديمقراطية وبمثابة ديكتاتورية واستبداد صريح من نظام أردوغان، الذى رفض حزبه "العدالة والتنمية" تقبل خسارة مدينة إسطنبول العاصمة الاقتصادية لتركيا، بجانب 3 مدن أخرى كبرى وهى أنقرة وأزمير وأنطاليا.
قرار إلغاء نتيجة بلدية إسطنبول، نقطة فاصلة فى تاريخ تركيا الحديث، فعجرفة أردوغان وإصراره على سياسة الاستحواذ، بالقمع والاعتقالات والتزوير تدفعه حتما لنقطة النهاية، التى ستكون نهاية وموت محقق لمشروع الإسلام السياسى فى المنطقة، بعد أن انكشفت كل ملامحه، مشروع تعامل مع الديمقراطية كصناديق اقتراع وكسلم يصل به للحكم ثم ينقلب عليها بعد ذلك.
*تهديد شرعية أردوغان:
قرار اللجنة العليا للانتخابات فى تركيا بإلغاء فوز أكرم أوغلو ببلدية إسطنبول، وضعت شرعية الرئيس التركى نفسه أمام معضلة دستورية، فما استندت له اللجنة من دوافع وأسباب لإلغاء نتيجة إسطنبول، من وجود أفراد ليسوا موظفين حكوميين للإشراف على لجان الاقتراع، واعتبار تلك الذريعة للضغط على اللجنة العليا للانتخابات لإلغاء فوز أكرم أوغلو، طرح تساؤلا منطقيا، لماذا لم تلغ اللجنة العليا نتيجة الانتخابات أيضا التى فاز بها رؤساء الأحياء والمجالس البلدية والمسئولين المحليين فى إسطنبول؟، فهؤلاء الأفراد غير الحكوميين الذين أشرفوا على انتخابات عمدة المدينة هم أنفسهم من أشرفوا فى نفس يوم الاقتراع على انتخابات رؤساء المجالس البلدية والمحلية!!، فلماذا لم تلغ أيضا؟، أم أن القرار تم تفصيله فقط لإزاحة مرشح حزب الشعب الجمهورى الذى ظل 17 يوما فقط عمدة للمدينة قبل الإطاحة به.
نفس هذا الرأى طرحه محرم إركيك، نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري، لكنه عمل المقارنة مع الانتخابات الرئاسية التى فاز بها أردوغان فى يونيو 2018، وشكك فى شرعيتها ودعا لإلغاء تفويض أردوغان كرئيس لتركيا، استنادا لقرار اللجنة العليا للانتخابات بإلغاء فوز أكرم إمام أوغلو، إركيك وجه رسالة للجنة، قال لهم "إذا ألغيتم تفويض أكرم إمام أوغلو، عليكم أيضا أن تلغوا تفويض الرئيس أردوغان لأن نفس القوانين ونفس اللوائح ونفس الطلبات ونفس مراكز الاقتراع ونفس الظروف كانت حاضرة فى كلا الاقتراعين، فلماذا لا تلغون النتائج التى خرجت من نفس المظاريف؟"، حديث نائب رئيس حزب الشعب الجمهورى تؤكد أن شرعية أردوغان كرئيس للجمهورية أصبح مشكوك فيها، أى نعم لن يفضى هذا التشكيك لنتيجة عملية بإعادة انتخابات الرئاسة مرة أخرى، لكنها على الأقل تضاف لسجله وسجل تيارات الإسلام السياسى الحافل بعدم احترام القواعد الديمقراطية المتعارف عليها.
*فساد السلطان فى إسطنبول:
لعل حجم الفساد الذى كشف عنه أكرم إمام أوغلو عمدة إسطنبول "الشرعي"، ونشرته نيويورك تايمز الأمريكية، يوضح لنا أن هناك أسبابا أخرى لـ"استموات" أردوغان وحزبه على استعادة المدينة، حتى لو كانت الآلية لعمل ذلك الضرب بالديمقراطية التركية بعرض الحائط بتهديد وضغط على اللجنة العليا للانتخابات لإلغاء النتيجة.
إمام أوغلو أوضح أنه خلال 17 يوما التى قضاها كعمدة للمدينة قبل أن يجبر على ترك منصبه، اكتشف أن أردوغان ووزرائه وحزبه تعاملوا مع إسطنبول كإقطاعية لهم، فالمدينة غارقة فى الديون، فميزانيتها السنوية 20 مليار ليرة فى حين أن ديونها 26 مليار ليرة.
وقال أوغلو، إن النظرة الخاطفة القصيرة التى اكتسبها فى تعاملات مكتب العمدة خلال الـ17 يوما، كشفت له وجود العشرات من السيارات الموجودة تحت تصرفه، والملايين المدرجة فى الميزانية لمنازل المسئولين، موضحا أن هناك فساد وإنفاق مهدر فى إسطنبول، وعدم وجود هيكل مؤسسى منضبط لإدارة المدينة، فحين تكون مديونات المدينة بهذا الشكل فهذا معناه أن الإدارة سيئة، وأضاف أكرم أن مكتب عمدة المدينة يدير 40 ٪ من ميزانية المدينة الموحدة، أما الـ60% من ميزانية المدينة تديرها 28 شركة خاصة، وجميعها شركات يمتلكها مؤيدون وحلفاء لأردوغان، وهذا وفقا لأكرم أوغلو هو السبب الرئيسى الذى جعل أردوغان يحارب لاستعادة المدينة، لأن مكتب العمدة مسئول عن منح عقود الخدمات، ويمكن لرئيس البلدية الجديد إنهاء العقود المربحة أو إعادة مراجعتها وكشف الفساد فى ترسية هذه العقود، بجانب أن الصحف التركية كشفت أن بلدية إسطنبول دفعت العام الماضى ملايين الدولارات للمؤسسات الخيرية التى يديرها أفراد من عائلة أردوغان.
*الربيع التركي:
فى الـ3 من مايو الجارى، خرج أردوغان، بتصريحات عنترية وجه فيها رسالة لا تعلم إن كانت لمعارضيه فى الداخل أم لأعدائه فى الخارج، قال فيها إن الحالمين بحدوث ربيعٍ تركى واهمون، معتبرا أن تركيا ليست الشرق الأوسط، وأنها أكبر من أن يقدر أحد على ابتلاعها، واستطرد السلطان العثمانى بالشرح قائلا"لا يزال البعض يحنون إلى حدوث ربيعٍ تركيٍ، فى حين تحول كل مكان جلبوا له الربيع إلى شتاءٍ حالكٍ".
أردوغان يعلم فى قرارة نفسه أنه يدفع بالأتراك دفعا للثورة عليه، يعلم أنه بسياساته الداخلية على مستوى الاقتصاد والحريات العامة وملف الأكراد، والخارجية على مستوى تدهور مصالح تركيا الاستراتيجية، ستجعله يقترب رويدا رويدا من نقطة النهاية، ليست له فقط، بل لمشروع الإسلام السياسى ككل داخل تركيا، ولن يقبل بعدها الأتراك حتى بنفايات حزب العدالة والتنمية التركي، كأحمد داوود أوغلو وزير الخارجية السابق، وَعَبَد الله جول رئيس الجمهورية السابق، اللذان ابتعدا عن أردوغان وأصبحا معارضين بشكل علنى لسياساته.
أردوغان لن يترك الحكم بصناديق الاقتراع، وبافتراض نجاحه فى الصمود والاستمرار فى الحكم حتى 2023، فإن الانتخابات الرئاسية التى ستجرى وقتها، لن يقبل نتيجتها إذا أسفرت عن خسارته السباق، فواهم من يتخيل أن أردوغان سيترك الحكم بالصندوق، أردوغان لن يترك الحكم سوى بثورة شعبية"ربيع تركي"، تطيح به وبحزبه، فبذكاء الإسلاميين المتعارف عليه، نجح السلطان الإخوانى فى استعداء كل فئات الشعب التركي، واستعدى مؤسسات الدولة العميقة، التى تخيل أنه سيطر عليها، فالجيش التركى لم يخرج من المعادلة، حتى بعد سلسلة الإقالات والمحاكمات التى طالت العديد من قادته وضباطه عقب مسرحية الانقلاب الفاشلة فى يوليو 2016، فقادة وضباط هذا الجيش لن ينسوا الإهانة التى تعرض لها أفراد الجيش على مضيق البوسفور، حين قام أنصار أردوغان بتجريدهم من ملابسهم والاعتداء عليهم وذبح أحد الجنود.
أنا هنا لا أقول إن انقلابا صريحا سيتم على أردوغان، لكن المقصد أن القوى المدنية التركية التى يتصدرها حزب الشعب الجمهورى وحزب الشعوب الديمقراطية "أكراد" وحزب الخير، حين يصلوا لمرحلة اليأس الكامل من فرض الديمقراطية على أردوغان، سيقودوا الشعب التركى الغاضب لربيع تركي، ربيع سيدعمه الجيش وباقى مؤسسات الدولة العميقة، ووقتها لن يتم ابتلاع تركيا كما ذكر أردوغان، بل سيتم ابتلاعه هو وحزبه العدالة والتنمية من الشعب التركي، وسيحظى هذا الربيع وقتها بالدعم من كل القوى الدولية والإقليمية، التى لم تعد تتحمل سياسات أردوغان وأصبح وجوده عبء وخطر على مصالحهم ومصالح تركيا نفسها، فهو ناصب الجميع العداء، وحول تركيا من "صفر" مشاكل مع جيرانها العرب والأوروبيين، إلى عداوة صريحة، وتسببت عجرفته وسياساته الخارجية فى عزل أنقرة التى اقتصرت تحالفاتها الإقليمية حاليا على الدوحة وطهران فقط بجانب تنظيمات إرهابية مسلحة فى الإقليم، وخسرت أنقرة جميع القوى العربية الرئيسيّة كالقاهرة والرياض وأبوظبى ودمشق وبغداد.
*قمع واستبداد غير مسبوق :
منذ محاولة الانقلاب العسكرى على أردوغان فى يوليو 2016، شهدت تركيا أكبر حملة قمع للحريات وانتهاك لحقوق الإنسان لم تشهدها فى تاريخها الحديث منذ إنشائها على يد كمال أتاتورك، فالسلطان الإخوانى وظف مسرحية الانقلاب لترسيخ قبضته على المؤسسات التركية، باتهامات بالإرهاب بالجملة للآلاف من الأتراك، وفصل آلاف من الموظفين الحكوميين لمجرد شبهات فى انتمائهم لحركة الخدمة التى يترأسها القيادى الدينى الصوفي" فتح الله جولن".
تقارير المنظمات والهيئات الدولية رصدت حجم هذه الانتهاكات ضد معارضى نظام أردوغان خلال عامين فقط، تتحدث عن اعتقال 50 ألف شخص بتهمة المشاركة فى محاولة الانقلاب عليه، بينهم عسكريون وصحفيون وأكاديميون ومهنيون وسياسيون، وتم فصل 150 ألف موظف تركى لشبهات انتمائهم لحركة الخدمة، وإغلاق 2200 مؤسسة تعليمية خاصة و19 اتحاداً عمالياً و15 جامعة، بجانب إغلاق وتأميم 150وسيلة إعلام ما بين صحف ومحطات تليفزيونية.
*أكرم أوغلو - الحصان الأسود:
فى كل الأحوال ستجرى انتخابات إسطنبول فى الـ23 من يونيو القادم، وأصبح أكرم إمام أوغلو هو الحصان الأسود فى تركيا حاليا، الذى تتوافر فيه جميع مقومات القيادة والزعامة السياسية، وسيصبح رمزا يتطلع له الأتراك ليخلصهم من كابوس أردوغان وحزبه، وسواء فاز أكرم أوغلو فى انتخابات الإعادة أو خسر ستكون النتيجة فى كل الأحوال وبالاً على أردوغان، الذى استوحش وظن نفسه وبحزبه الإسلامى قادر على اختطاف تركيا، وحتى لو استمر فى الحكم لـ2023، فى طريقه لهذا التاريخ سيواجه بهزائم داخلية وإقليمية ودولية متتالية تجعل من وجوده خطر يجب التخلص منه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة