تنتهي الحياة الزوجية بين الزوجين إما بالطلاق وإما بموت أحدهما، وعندئذ فإن شريعتنا تلزم المرأة بالعدة مدة زمنية معينة تختلف باختلاف نوع الفرقة، وذلك لاستبراء الرحم حتى لا تختلط الأنساب إذا ما تزوجت المرأة زوجًا آخر، وكذا لاعتبارات نفسية ومعنوية وصحية لا تخفى على المتأمل في الحكمة من تشريع العدة بعد انتهاء الزواج.
وغالب النساء يلتزمن ببعض أحكام العدة، وهو عدم الزواج بزوج آخر قبل انتهاء العدة، وغالبهن أيضًا يعلمن أن العدة بعد الطلاق ثلاث حيضات إن كانت المرأة من ذوات الحيض ولم تكن حاملًا، وذلك لقول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَالله عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، وأنها ثلاثة أشهر إن كانت الزوجة لا تحيض وليست حاملًا، لقول الله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ...}، وأنها تنتهي بوضع الحمل إن كانت الزوجة حاملًا، لقول الله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}.
كما تعلم غالب النساء أن عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام من تاريخ الوفاة، وذلك لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، ويعلمن أن المعتدة من طلاق رجعي تعتد في بيتها ولا تخرج منه، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا الله رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ الله وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا}.
وقد أراد الشرع للمطلقة رجعيًّا - وهو ما يكون بعد الطلقة الأولى أو الثانية - أن تعتد في بيت مطلقها لتكون تحت نظره وقريبة منه لعله يراجعها قبل انتهاء العدة، بخلاف المعتدة بعد الطلقة الثالثة، فبها تنقطع صلتها بزوجها الذي أصبح مطلقها انقطاعًا تامًّا، ولا يتمكن من ردها إلى عصمته، ولذلك تعتد في بيت أهلها، فإن اعتدت في بيت مطلقها احتجبت عنه، لأنها أصبحت أجنبية لا يجوز لها أن تقيم معه في مكان واحد، فوجب عندئذ أن يكون مقر عدتها منفصلًا عن المكان الذي يعيش فيه مطلقها إن كانا في بيت واحد.
أما المعتدة من وفاة فإنها تعتد وتحد على زوجها في بيتها، ولا تخرج منه إلا لضرورة كإجراء عملية جراحية، أو خوف وقوع ضرر عليها لعدم أمن مكان إقامتها، أو لحاجة كذهابها إلى عملها إن لم يتيسر لها الحصول على إجازة، مع أنه ينبغي أن يكون حقًّا متاحًا لها تضمنه القوانين بأجر كامل، كما جاز لها أن تأخذ إجازة للوضع وأخرى لرعاية الطفل، فينبغي أن تكون هناك إجازة لاعتداد المرأة بعد الطلاق أو موت الزوج، وإنما جاز لها الخروج متى احتاجت إليه وكان في تركه مشقة، لما رُوي عن سيدنا جابر - رضي الله عنه - أنه قال: طُلِّقَت خَالَتِي، فَأَرَادَت أَن تَجُدَّ نَخلَهَا، فَزَجَرَها رَجُلٌ أَن تَخرُجَ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فَقالَ: «بَلَى، فَجُدِّي نَخلَكِ، فَإِنَّكِ عَسَى أَن تَصَدَّقِي، أَو تَفعَلِي مَعرُوفًا»، وقد اختلفت تفسيرات الفقهاء لهذا الحديث؛ حيث يراه بعضهم محمولًا على الحاجة، في حين توسع فيه آخرون فأجازوا لها الخروج نهارًا ولو لغير حاجة، لكن ما عليه الجمهور وهو الأرجح أنها لا تخرج إلا لضرورة أو حاجة.
وربما يكون التزام المعتدة بالقرار في بيتها في أثناء العدة من أقل أحكام العدة تطبيقًا والأكثر تضييعًا، وكأن العدة تنحصر في عدم الزواج حتى انتهائها؛ حيث نرى كثيرًا من النساء لا يلتزمن بهذا الحكم ويمارسن حياتهن بعد بضعة أيام أو أسابيع بشكل عادي، في حين تبالغ أخريات فينعزلن عن المجتمع بشكل نهائي ويتركن وسائل العناية بالنفس، حتى إن بعضهن يعتقدن حرمة تسريح شعرهن، أو النظر في المرآة، أو ارتداء ملابس غير سوداء، أو الاغتسال أكثر من مرة في الأسبوع، أو التحدث في الهاتف، وغير ذلك مما لا علاقة له بأحكام شرعنا الحنيف، فغاية المطلوب من المتوفى عنها زوجها هي إظهار الأسى على فقد زوجها وترك الزينة والتطيب بالعطور ولبس الحلي، وغير ذلك مما يكون مظهرًا من مظاهر الفرح والسرور، وليس مطلوبًا منها ترك العناية بنظافة جسدها وملابسها، ولا ملازمة لون بعينه ما دام أنه ليس للتزين.
كما يلزم المتوفى عنها زوجها ملازمة بيتها كغيرها من المعتدات حتى انتهاء عدتها، فإن احتاجت إلى انتقال كانتقالها لمراجعة طبيب أو أداء عملها أو شراء احتياجاتها إذا لم تجد مَن يشتريها لها، فلها ذلك بلا حرج، ولا مانع من الذهاب لمشروع لها ورثته عن زوجها للتأكد من حسن إدارته، أو إنهاء إجراءات وفاة الزوج وإعلام الوراثة والمعاش، وزيارة المريض من أهلها القريبين من مسكنها، وكذا البعيدين إن كان والدًا أو والدة، ولكن لا يجوز لها الخروج للترفيه والتنزه ما لم يكن بعضه موصوفًا من طبيب للخروج من حالة اكتئاب مثلًا لشدة حزن ونحوه، مع مراعاة الضوابط الشرعية والاقتصار على ما تندفع به المضرة، ولا مانع من تلميح رجل لها بالخطبة بعد انتهاء عدتها، ولكن لا يجوز التصريح بذلك في أثناء العدة، فلا بأس بقول بعض كلمات تفهم منها - أو وليها - أنه يريد خطبتها بعد انتهاء عدتها، كأن يقول: متى تنتهي عدتك؟ أو إذا انتهت عدتك فأخبريني، ونحو ذلك، لقول الله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَٰكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَن تَقُولُوا قَوْلًا مَّعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}، وعلى ذلك فلا إفراط في العدة بالمبالغة في الحزن والتضييق على النفس بمنع المباح، ولا تفريط فيها بما يؤدي إلى تضييع أحكامها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة