مصر أقدم دولة زراعية، هى البلد الذى اخترع الزراعة أصلا وأهدى علمه للإنسانية لتبدأ مرحلة أساسية فى الحضارة، وطوال آلاف السنين ظلت مصر رغم طمع الطامعين وموجات الغزاة المحتلين البلد الزراعى الأول لأمبراطوريات العالم القديم، نعم تسببت سياسات الاستعمار فى تأخر بلدنا ودخولها عصر الظلمات لقرون ممتدة ، لكن بلد النيل لا يجب أن يظل تحت تأثير عصر الظلمات هذا فى الزراعة أو فى غيرها من المجالات.
خلال العقود الماضية، شهدت الزراعة المصرية انهيارات متتابعة نتيجة تآكل الأراضى الخصبة فى الوادى والدلتا مع استمرار الزحف العمرانى دون وجود خطط واضحة لإقامة مجتمعات جديدة خارج الوادى، والتخلى عن السياسات الاشتراكية فى توجيه المزارعين مع ترك الحبل على الغارب لكل من شاء فى التصرف بأرضه الزراعية سواء بتجريفها أو تبويرها أو البناء عليها، مع ضعف السيطرة على فوضى المبيدات المغشوشة وغير المغشوشة، وأسهمت سنوات الفوضى منذ 2010 فى تفاقم الأوضاع السيئة بالنسبة للزراعة المصرية التى لم تجد من يهتم بسياساتها أو بمصالح الفلاحين الذين اتجهوا فى العموم إلى هجر أراضيهم أو زراعتها بمحاصيل تجلب الربح السريع لكنها تسبب فجوة كبيرة فى الغذاء المتاح أمام المواطنين، الأمر الذى أدى إلى استيرادنا محاصيل وأغذية هى أصلًا من اختراع مصر التى عرفتها وعرفت بها على مر التاريخ!
السنوات الخمس الأخيرة فقط شهدت توجيها من الرئيس لمواجهة التعديات على الأراضى الزراعية وتبويرها من المنبع قبل الحلول الأمنية، عودة إلى الحلول الشاملة لتحقيق نتائج فعالة، فلن تربح الدولة شيئًا عندما تهدم بيتا مقاما وسط الزراعات وكذلك سيخسر من أقامه طمعا فى مئات الآلاف من الجنيهات يكسبها بعد تبوير أرضه، ولكن بالتوعية يمكن الحفاظ على هذه الأراضى حتى لو دخلت كردون المبانى، فإذا أوضحنا لأصحاب الأراضى أن ما يمكن أن يكسبوه من أموال عندما يستغلون أراضيهم الاستغلال الأمثل سيفوق عائد بيعها بالمتر بعد تبويرها سنقطع خطوة كبيرة لوقف نزيف الأراضى الزراعية الطينية ونعيد الاعتبار للمنتج الزراعى المصرى.
وفى الوقت نفسه تكثف الأجهزة الرقابية حملاتها على الأسواق لضبط أنواع المبيدات الزراعية المهربة أو المغشوشة قبل أن تتسرب إلى المزارعين، مع إجراء عمليات توعية مكثفة لمواجهة استهلاك المبيدات فى المحاصيل الزراعية إلا وفق الإرشادات والتعليمات الخاصة بوزارة الزراعة، فالزراعة المصرية التى كانت كلها أورجانيك فى يوم من الأيام لابد أن تعود كما كانت زراعة طبيعية خالصة تعتمد على المبيدات الحيوية لا على المبيدات الكيماوية.
مشروع الصوبة الزراعية المتكاملة على سبيل المثال، والتى تحقق أرباحا من خلال إنتاج المحاصيل الأورجانيك يمكن أن يكون فرصة لاستعادة الريادة الزراعية وتحقيق طفرة تصديرية لأسواق العالم، وقبل ذلك تغطية الطلب المحلى من الإنتاج الزراعى المتميز، ولدينا الآن وحدات مصرية على أعلى مستوى لتوفير مكونات الصوب الزراعية الحديثة التى تنتج المحاصيل المطلوبة طوال العام وترشد استخدام المياه.
النقطة التنموية المضيئة لمشروع الصوب الزراعية لا تتعارض مع نقاط أخرى مثل مشروع المليون ونصف مليون فدان أو تطوير نظام الرى بالغمر فى الأراضى الزراعية المفتوحة إلى الرى بالتنقيط، وكذلك توظيف التجارب البحثية الجديدة لاستنباط سلالات غزيرة الإنتاج وقليلة الاستهلاك للمياه، مع التوسع فى إنشاء مصانع الأغذية المحفوظة فى محافظات مصر.
وإذا مددنا الخيط على آخره، فيمكن الربط بين كل مشروعات الصوب الزراعية فى مصر والشركة الوطنية للزراعات المحمية التى تعمل فى مجال التوريد والتسويق للمحاصيل فى السوق العالمية والتنسيق لتوحيد نوعيات البذور والمحاصيل المزروعة طوال العام بحسب متطلبات التصدير، فالفرصة متاحة أمام المزارعين وأصحاب المشروعات الزراعية الصغيرة للبدء بصوبة واحدة أو عدة صوبات بحسب مساحة الأرض المتاحة، وكذلك لأصحاب الصوبات القديمة يمكنهم التنسيق والتعامل مع أصناف البذور والسلالات الجديدة من الخضر والفاكهة، والتنسيق فيما يتعلق بمواصفات التعبئة والحفظ والتصدير للخارج.
والحمد لله أن قيض الله لنا رجالا يعملون بنزاهة وتجرد للنهوض بهذا البلد الأمين، لا تعوقهم صعاب ولا يمنعهم نقص الإمكانات، ويتحركون دائمًا بإصرار وعزيمة نحو تحقيق أهدافهم آخذين بالأسباب ومتوكلين على الله، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، وللحديث بقية عن المشروعات التنموية العملاقة التى تنفع الناس وتمكث فى الأرض.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة