الرهن مشروع بكتاب الله تعالى؛ إذ يقول سبحانه: "وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ"، وثبت فى كتب السنة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشترى طعامًا من يهودى ولم يكن لديه ثمنه فرهنه درعًا من حديد إلى أن يدفع له ثمن الطعام، ومات النبى - صلى الله عليه وسلم - ودرعه ما زالت مرهونة عند اليهودى حتى افتكها الصحابة بعد وفاته، وقد أجمع على مشروعيته علماء المسلمين قديمًا وحديثًا.
والرهن كما يظهر من الآية الكريمة هو عقد توثيق للدين وليس عقدًا مستقلًّا؛ أى إنه يكون دائمًا مصاحبًا لعقد تترتب عليه مداينة فى الذمة، وتبقى العين المرهونة رهنًا عند الدائن المرتهن حتى يقضى الراهن المدين ما عليه من دين، فيسترد العين المرهونة عندئذ من يد المرتهن، كما أن العين المرهونة عقارًا كانت أو منقولًا تبقى بكاملها فى يد المرتهن حتى لو قضى المدين بعض دينه أو غالبه، فليس له أن يطالب المرتهن بفك شيء من المرهون، وإن كان ذلك ممكنًا ما لم يرض بذلك المرتهن، فلو كان المرهون سيارتين مثلًا، فقضى الراهن نصف الدين أو ثلاثة أرباعه بحيث يكون الدين المتبقى عليه أقل من قيمة إحدى السيارتين، فليس له إلزام المرتهن برد إحداهما؛ لأن كل جزء من الدين يقابله توثيقًا كل جزء من المرهون، أما إذا رضى المرتهن برد سيارة منهما أو حتى رد الاثنتين فله ذلك، ويبقى باقى الدين فى ذمة المدين من دون توثيق؛ حيث إن الدائن يمكنه من البداية ترك توثيق دينه متى أمن الدائن؛ إذ يقول الله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}.
وهذا القدر لا خلاف على مشروعيته بين الفقهاء، كما أنه لا خلاف بينهم على عدم جواز انتفاع المرتهن بالعين المرهونة بلا مقابل، فانتفاع المرتهن بالعين المرهونة مخالفة شائعة يقع فيها كثير من الناس؛ حيث يتعاملون مع الرهن كعقد مستقل، فمن يريد قرضًا يطلب من آخر هذا المال إلى أجل مسمى، ويسلمه أرضه ليزرعها، أو بيته ليسكن فيه، أو سيارته ليستخدمها حتى يرد إليه مبلغ القرض، وهذا غير جائز بالإجماع؛ لأن الانتفاع بالعين المرهونة هنا يكون فى مقابل الوقت الذى اتفق عليه بين الدائن والمدين، ومعلوم أن المنفعة العائدة من القرض حكمها حكم الفائدة شرعًا، فالرهن هو لتوثيق الدين فقط، وهو مملوك بمنافعه لصاحبه الراهن وليس للمرتهن الذى ليس له سوى وضع يده عليه واحتباسه حتى يستوفى حقه، فإن لم يوفِّ المقترض ما عليه من دين قبل مضى المدة المتفق عليها، كان من حق المرتهن وفق إجراءات معينة بيع العين المرهونة وأخذ قيمة ما له من دين على الراهن فقط، ثم يرد الباقى من ثمن العين المرهونة للراهن، وليس للمرتهن أن يتملك العين المرهونة فى مقابل دينه؛ حيث إن قيمة العين المرهونة تكون غالبًا أكثر من قيمة الدين، وحتى لو كانت قيمتها مساوية لقيمة الدين فلا بد من عرضها للبيع ليتحدد ثمنها العادل بسعر السوق وقت البيع، ثم بعد تحديد سعرها بشفافية يمكن للمرتهن أن يتملكها بسعرها دون نقصان حفاظًا على حق الراهن، وحتى لا ينتفع المرتهن بشيء من العين المرهونة فى مقابل الدين، وإن كان ثمة خلاف بين الفقهاء حول انتفاع المرتهن بالعين المرهونة بإذن الراهن ورضاه، والراجح أنه لا يجوز له ذلك حتى مع إذن الراهن له؛ لأن إذن المقترض لا يحل أن يجر القرض نفعًا للمقرض. أما انتفاع المرتهن بالعين المرهونة إذا كانت دابة تُركب أو حيوانًا يُحلب، فالراجح أن المرتهن له فى هذه الحال أن يركب الدابة ويشرب اللبن فى مقابل الإنفاق مدة الرهن من علف ونحوه، بعد إذن الراهن له بذلك أو جريان العرف عليه؛ لورود نص فى ذلك، وهو قول النبى - صلى الله عليه وسلم: «لَبَنُ الدَّرِّ يُحلَبُ بنَفَقتِه إذا كان مَرهونًا، والظَّهْرُ يُركَبُ بنَفَقتِه إذا كان مَرهونًا، وعلى الذى يركَبُ ويحلُبُ النَّفَقةُ»، فإن منع الراهنُ المرتهن من الانتفاع، فليس للمرتهن الانتفاع، وتكون نفقة الحيوان على صاحبه الراهن عندئذ وليست على المرتهن.
وعلى ذلك، فإنه يمكن للمرتهن أن ينتفع بالعين المرهونة إن كانت أرضًا بزراعتها، وإن كانت بيتًا بالسكنى فيه، إذا أذن له الراهن المدين، بشرط أن يكون هذا الانتفاع بالقيمة الإيجارية التى تؤجر بها عين مماثلة للعين المرهونة دون نقصان، ويمكن الاتفاق بين الراهن والمرتهن على أن يدفع المرتهن القيمة الإيجارية وقت استحقاقها وكأن العين غير مرهونة له، كما يمكن الاتفاق على المقاصة من الدين، فكلما استحقت الأجرة - سنوية كانت أو شهرية أو حتى يومية - خصمت من قيمة الدين، وهنا تكون العين مرهونة توثيقًا لدين الراهن، وتكون مؤجرة للمرتهن، فهى مرهونة ومؤجرة فى آن واحد، ولا مانع من اجتماع الإجارة والرهن على عين واحدة ولشخص واحد، كما يجوز أن تكون العين مرهونة لشخص ومؤجرة لشخص آخر إذا قبل المرتهن ذلك ورضى أن يمسك بأوراق ملكيتها أو بوثيقة تفيد برهنها له، وهو ما يعرف بالرهن العقارى المعمول به فى المصارف؛ حيث يكتفى المصرف بالإمساك بأوراق ملكية العين المرهونة له وما يفيد برهنها من قبل صاحبها المدين للمصرف، مع ترك العين المرهونة بيد صاحبها، ولكن فى كل الأحوال ليس لصاحب العين المرهونة بيعها أو هبتها أو إحداث ما ينقص قيمتها من غير موافقة صريحة من المرتهن الدائن.
وبيان هذه الأحكام ومعرفتها بالغ الأهمية، لاسيما فى المجتمعات الريفية؛ حيث تكثر المخالفات فى حالات الرهن، خاصة حال رهن الأراضى الزراعية التى قد تبقى عقودًا مرهونة فى دين يعجز صاحب الأرض عن الوفاء به؛ إذ يستغل المرتهن الدائن الأرض بالزراعة طوال مدة بقاء دينه، وهو حرام شرعًا وأكل لأموال الناس بالباطل، كما أنه فى بعض الحالات يتملك المرتهن العين المرهونة فى مقابل دينه الذى على صاحبها الراهن من دون الإجراءات الضرورية التى ذكرناها سابقًا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة