شرع الله تعالى الزواج وجعله الطريق الشرعى لإنجاب الأبناء، لكن هناك مع الأسف طريق آخر يرفضه شرعنا الحنيف، بل جعله من الكبائر العظمى، وهو طريق السفاح الذى تغلب فيه شهوة البدن على الطرفين، فيقعان فى الحرام الذى قد ينتج عنه حمل يولد بجناية من أبويه، بدلا من أن ينشأ عنه مولود منتسب لأبويه، مستحق لحقوقه، مشمول برعاية الوالدين وحنانهما!
وهذا المولود غير الشرعى سرعان ما يتهرب من مسؤوليته مَن تسببا بشهوتهما فى ولادته، وبخاصة الرجل الذى ربما ينكر صلته بالمرأة أصلًا، تاركًا إياها- فى تصرف دونى لا يليق برجل- تلاقى مصيرها هى وولدهما، ويندر من النساء مَن تقوى على رعاية هذا المولود ومواجهة المجتمع به، فأكثرهن تلقى به أمام مسجد أو غيره من أماكن يرتادها الناس، أملًا فى أن يأخذه بعضهم ليربيه ويرعاه، وبعضهن تودعه أحد الملاجئ لرعايته مع غيره من البؤساء أمثاله، وربما يقدم الفاعلان أو أحدهما على قتل المولود تخلصًا من العار، فيجمعان مع كبيرة الزنى كبيرة القتل العمد العدوان!
وهؤلاء الأطفال الذين يولدون من هذا الطريق الحرام ينشأ غالبهم ناقمين على المجتمع، لما يرونه من ضياع وتهميش وعقاب مجتمعى على جريمة لم يرتكبوها، كما أنهم يمثلون سوقًا رائجة لتجار التطرف والإرهاب، حيث يسهل تصيدهم بأرخص الأثمان ليكونوا أدوات تدمير وهدم لا بناء وتعمير، ولا يخفى ما تجره هذه الظاهرة على المجتمعات- ومنها المجتمع المصرى- من مشكلات وآثار سلبية تؤثر بشكل كبير على التنمية والاستقرار، ولذا فإن البحث عن حلول لهذه المشكلة يجب ألا تتوقف عنه عقول المفكرين والعلماء والخبراء فى مجالات عدة، بداية من التثقيف واستعادة منظومة الأخلاق، وليس نهاية بالتشريعات الرادعة عن ارتكاب جرائم الشرف، ومن بين هذه الحلول، من وجهة نظرى، بحث إمكانية إلحاق هؤلاء المواليد بآبائهم من الناحية الشرعية.
ودون الخوض فى تفاصيل فقهية ليس هنا محلها، فإن الناظر فى تراثنا الفقهى يتبين له أن جمهور الفقهاء يرفضون إلحاق هؤلاء بآبائهم، وإنما يلحقون بأمهاتهم لثبوت الولادة، حتى لو أقر الرجل بأن هذا الولد منه متى ذكر أنه من الزنى، فإذا أقر أنه ابنه ولم يذكر أنه من الزنى ثبت نسبه فى هذه الحالة ما لم يكن لأمه زوج وقت حمله، وذلك لقول النبى- صلى الله عليه وسلم: «الولد للفراش، وللعاهر الحجر»، أى إن المولود ينسب لزوج مَن ولدته على فراشه، وإذا ثبت زناها عوقبت عليه، فثبوت جريمة الزنى عندهم ليس كافيًا لنفى نسب ولدها من زوجها، وهو ما يعرف بتفريق الأحكام، وطبيعى أن الزوجية القائمة سبب ملائم لثبوت النسب، فهى الأصل الذى لا يقوى على معارضته الزنى الذى هو عارض وليس طريقًا للنسب أصلًا، ولا يمكن نفى نسب هذا المولود لزوج المرأة إلا إذا رفض الزوج نسبته إليه، وهنا تكون الملاعنة بين الزوجين لنفى نسب الولد عن الزوج، ونسبته إلى أمه فقط، حتى لو عُرف الزانى وقبِل إلحاقه به.
وعند تدقيق النظر فى هذا الحديث الذى يعد من أقوى ما استند عليه الجمهور فى عدم إلحاق ولد الزنى بأبيه، نجد أنه يعالج حالة خاصة، وهى حالة الزنى بامرأة متزوجة، فلا مانع من بعض التأويل الذى يبقى الباب مفتوحًا لإمكانية إلحاق هذا المولود بأبيه فى حالة الزنى بامرأة غير متزوجة أصلًا، حيث لا فراش ينسب الولد إليه عندئذ، متى عُرف الأب المتسبب فى الحمل، كما يلاحظ أن الحديث لم يتطرق للزانى أصلًا، ولم يتعرض لحكمه إذا لم تكن شريكته زوجة، وتحميل الحديث حكم هذه الحالة فيه نظر من وجهة نظرى، وإن كان جمهور الفقهاء عمموا الحكم على جميع حالات الزنى من غير تفريق بين متزوجة وغيرها، فجعلوا ماء الزنى هدرًا لا يثبت به نسب.
وقد فتح بعض الفقهاء قديمًا باب الأمل لهؤلاء البؤساء، فأجازوا إلحاق مولود الزنى بأبيه متى اعترف أنه منه، وهو ما أرى ضرورة الأخذ به فى عصرنا كحل من حلول هذه المشكلة. ومع تقديرنا الكامل لجمهور الفقهاء، فإن ما ذهبوا إليه استنادًا للحديث المذكور قد ناسب زمانهم، والحديث يحتمله بطبيعة الحال، بالإضافة إلى أن الناس فى زمانهم كانوا يطبقون أكثر منا قول الله تعالى: «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى»، وقوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ»، ولذلك لم يكن الطفل الناتج عن علاقة غير شرعية يتحمل مجتمعيًّا وزر والديه فى زمانهم كما نفعل فى زماننا، فقد كان زياد بن أبيه واحدًا من كبار الصحابة وقائدًا من قادة جيش المسلمين، ولم يتنكر المجتمع له ولا لأمثاله، كإنكارنا ونبذنا لهؤلاء المجنى عليهم، فلا يتصور فى زماننا قبول الناس فكرة وجود وزير مثلًا من هؤلاء، مع أنه قد يكون من بينهم مَن يصلح أكثر من غيره!
وحيث إنه لا يوجد دليل قطعى فى دلالته على منع إلحاق هؤلاء الأطفال بآبائهم، وكما أن نسب ولد الزنى يثبت لأمه فور ولادته بلا خلاف، فكذا ينبغى أن يثبت للأب متى ثبت أنه ابنه، وإلا كنا بمنع ثبوت نسب ابنه إليه مساعدين له على التنصل من أثر جريمته، محملين هذا الأثر للأم وحدها حتى ولو كانت مغتصبة ولم تكن راضية، بالإضافة إلى أن المصلحة تقتضى هذا الإلحاق، حفظًا لهؤلاء الأبرياء من الضياع، وكفًّا لشرهم المتوقع من تشريدهم، بل هو واقع بالفعل، فغالب مَن تستغلهم الجماعات المتطرفة هم من هؤلاء الناقمين على مجتمعهم الفاقدين لأدنى مقومات الحياة الكريمة التى يتمتع بها أقرانهم.
وعليه، فإنه من الملائم تغير الفتوى الموروثة التى تمنع إلحاق أبناء الزنى بآبائهم، ويستلزم هذا تعديل التشريعات المبنية على هذه الفتوى بإقرار ثبوت نسب أبناء الزنى لآبائهم، كما ثبت بالإجماع لأمهاتهم، وكما يثبت للآباء فى حال اعترافهم بهم من غير ذكر لواقعة الزنى، فحقيقة الأمر فى جميع هذه الأحوال أن المولود منهم، وكون هؤلاء الأطفال نتاج جريمة يعاقب عليها الآباء، لا يهدر حقوقهم، وأول هذه الحقوق حق النسب، وجميع ما يترتب على ثبوت النسب، كوجوب النفقة والرعاية والإرث، هذا إذا عُرف الأب، أما إن لم يُعرف الأب، فإن جهات الاختصاص المتمثلة فى مكاتب الصحة والسجلات المدنية تضع للمولود اسمًا ثلاثيًّا عشوائيًّا، وتتكفل الدولة برعايته وتعليمه وتوفير الضمانات الكافية لدمجه فى المجتمع دون أن يُعرف بين الناس أنه مجهول النسب.
ولعل هذا الاجتهاد يحد من ظاهرة ما يسمى بأطفال الشوارع أو مجهولى النسب، لأن إلحاق ولد الزنى بأبيه رغمًا عنه رادع فى حد ذاته عن ارتكاب الجريمة، ويجعل مَن لديهم نزعة الانحراف يفكرون مرارًا قبل ارتكاب الفاحشة، لعلمهم مسبقًا أنهم سيتحملون آثارها، خلافًا لما هو معمول به، حيث يمكنهم بكل سهولة التنصل من أثر جريمتهم بإنكارها، أو حتى الاعتراف بها مع رفض قبول نسبة الولد، كما أن تكفل الدولة بمجهولى النسب سيعالج مشكلة الجزء المتبقى الذى لن يكون كثيرًا متى اعتبرت الوسائل الطبية الحديثة دليلًا مثبتًا للنسب، ولم يقتصر إثبات النسب على إقرار الأب، ومع كل ذلك تبقى جريمة الزنى من الكبائر العظمى التى إن لم يعاقب عليها الفاعل فى الدنيا أو يتوب توبة مقبولة، فإن مصيره إلى الله عز وجل فى الآخرة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة