لا شك أن الملف الإيرانى يحظى بكثير من الاهتمام من جانب عدة أجندات إقليمية ودولية، بينها كثير من التشابكات والتعقيدات، أضحت معها جملة من الملفات الصعبة تحتفظ بحضورها وسخونتها فى إطار العلاقات الدولية المعاصرة، دون حلول واضحة قريبة المنال.
ففى الوقت الذى تمثل فيه إيران بأطماعها فى المنطقة هاجساً مخيفاً للدول العربية، خاصة الخليجية، أرجوك لا تخصم منها قطر، فصداقة إيران مخيفة أيضاً لدولة فى مرحلة "الطفولة السياسية" التى تعانيها قطر. كما أن الاتحاد الأوروبى لا يمكنه الادعاء بأن "النووى" الإيرانى لا يشكل ضغطاً على ما بينه وطهران من مصالح مشتركة. مثلما تتخذ موسكو من الملف ذاته أداة للمساومة مع الأطراف كافة، بداية من الولايات المتحدة، إلى الدول الخليجية المعادية لإيران. وصولاً إلى أوروبا التائهة بين مصالحها مع إيران والولايات المتحدة على السواء، غير أن صلف ترامب لم يترك لأوروبا خيارات أسهل من البقاء تحت عباءة الاتفاق النووى الإيرانى، عام 2015، مع مجموعة (5+1)، وهى الدول دائمة العضوية فى مجلس الأمن إلى جانب ألمانيا. لاحظ أن ألمانيا أكبر اقتصاد أوروبى، وهى الشريك الصناعى الرئيس لإيران؛ فمعظم الأدوات المستخدمة فى البرنامج النووى الإيرانى ألمانية الصنع.
ومع ذلك فإن الخلاف الأوروبى ـ الأمريكى بشأن إيران لا يمكن توقع نموه إلى حد يفوق ما بين الولايات المتحدة وأوروبا من مشتركات تاريخية، تجارية وعسكرية وثقافية، تعجز إجراءات ترامب الحمائية عن إيقافها، مثلما يصعب توقع نجاح المساعى الفرنسية ـ الألمانية لقيادة أوروبا نحو بناء جيش خاص بالقارة العجوز كبديل عن حلف الناتو وإن طغت الهيمنة الأمريكية على أعماله بحكم ضخامة النصيب ألأمريكى فى ميزانيته، الأمر الذى يرفض ترامب استمراره.
أما الخلاف الأمريكى ـ الإيرانى، فهو عميق يمتد إلى انفجار الثورة الإيرانية عام 1979، وبموجبها تحولت إيران من ملكية يحكمها الشاه محمد رضا بهلوى، الحليف المخلص للولايات المتحدة، إلى جمهورية إسلامية تحت مرجعية دينية للخمينى. وما زالت ماثلة فى الأذهان أزمة السفارة الأمريكية فى طهران عندما اقتحم طلاب إيرانيون مقر السفارة واحتجزوا 52 أمريكياً لمدة 444 يوماً (4 نوفمبر 1979 ـ 20 يناير 1981). كُسرت فيها الهيبة الأمريكية، وعلى أثرها خرجت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين ولم تعد إلى الآن.
وبين الحين والآخر، تخرج تقارير من طهران تؤكد أن إيران ليس لها مصلحة فى مواصلة السير فى طريق العداء مع الولايات المتحدة الأمريكة، القطب الأوحد للنظام العالمى حتى تاريخه. ولأن إيران على علم بكيفية صناعة القرار الأمريكى، حيث تتسع دائرته لتشمل إلى جانب المؤسسات الرسمية، وسائل الإعلام، ومراكز البحث والتفكير...إلخ. فإن مراكز بحثية إيرانية تُصدر من وقت لآخر تقارير بهذا المعنى فى رسائل واضحة لنظرائهم فى الولايات المتحدة؛ ومن ثم إلى السياسيين الأمريكيين.
من جانب آخر، فإن هذه التقارير تدعم هواجس حقيقية موجودة لدى عواصم عربية مؤثرة فى المنطقة، تفيد أن واشنطن تمارس مساومات فجة فى الملف الإيرانى، وتتوعد إيران فى العلن، وتسعى سراً إلى اتفاق معها!، يُخلى الطريق لتمدد النفوذ الإيرانى فى كثير من الملفات العربية، خاصة سوريا ولبنان واليمن والعراق، وبموجب هذا الاتفاق، "الهاجس العربي"، تعترف واشنطن بإيران قوة إقليمية فى المنطقة. ويتراجع العداء الإيرانى لإسرائيل القابعة تحت خطر الصواريخ الإيرانية.
وعليه فإن خلاصة ترسخت لدى الدول العربية، صاحبة "الهاجس"، مضمونها أن دعم إيران للقضية الفلسطينية إنما هو مرحلى براجماتى لا يمكن الوثوق فى استمراره أمام إغراء المكافأة الأمريكية لو اعترفت واشنطن بإيران كقوة إقليمية!.
على الجانب الآخر، فإن ملاحظة قيمة بالقطع يُبديها فريق من الباحثين والمحللين الغربيين، ارتكازاً إلى أن إيران "الرسمية"، تدعم مثل هذه الطروحات، وتسمح بتمريرها، لأهداف تصب فى صالحها فى كل الأحوال، سواء تم تصديقها أو رفضها العقل الغربى والعربى على السواء. إذ تستهدف إيران تمييع المواقف الغربية المعادية لإيران، فضلاً عن زرع الشكوك بين الولايات المتحدة وأصدقائها العرب فى المنطقة.
والواقع أن منطقاً مقبولاً نلمسه فى الاتجاه الأخير؛ إذ أن إيران حققت ما بلغته من نفوذ وقوة مدفوعة بسياسات ثورية لافتة بجرأتها وإصرارها، الأمر الذى لا يمكن معه تصور استغناء إيران عن "ثورتها" مُكتفية باعتراف أمريكى بكونها قوة إقليمية. فإيران كدولة اعتيادية، فى عهد الشاه بهلوى، لم تنجح يوماً فى بسط نفوذها كإيران الثورية الآن. فإيران تستمد قوتها الحقيقية من تفرد وغموض نموذجها السياسى، ما جعلها هاجساً مشتركاً لأصدقائها وأعدائها على السواء.
وفى مقال مُقبل، قريب بإذن الله، نواصل معاً القراءة فى ملف الهاجس الإيرانى الغامض.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة