عندما تصاعد الصراع بين المعسكرين الغربى والشرقى، إبان الحرب الباردة، تبنت الولايات المتحدة وحلفائها مسارين متوازيين، للانفراد بصدارة النظام الدولى، أولهما تفجير الاتحاد السوفيتية من الداخل، عبر تقديم الدعم للنزعات الانفصالية داخل الجمهوريات الشرقية، بينما قام المسار الأخر على تقويض الأنطمة الموالية لموسكو، عبر دعم الحركات المسلحة، مما ساهم فى استنزاف القوة العسكرية للكتلة الشرقية، سواء فى احتواء الصراعات الداخلية، أو لحماية الحكومات التابعة لها، مما عجل بانهيارها، عبر تفكيك الاتحاد السوفيتى، ليضع كلمة النهاية للصراع الدولى، وبداية فصل جديد أحادى للنظام العالمى.
تجربة الحرب الباردة ربما قدمت نموذجا للكيفية التى تخوض بها الولايات المتحدة صراعاتها الدولية، فى إطار السيطرة على النظام العالمى، حيث تعتمد نهجا يقوم فى الأساس على دعم النزعات الانفصالية، خاصة فى داخل معسكرات الخصم، وربما ساعدها فى ذلك النظام الامبراطورى، ذو الطبيعة الفيدرالية، الذى اعتمدته الكتلة الشرقية، حيث ساهم بصورة كبيرة فى تنامى الحركات المتمردة، والتى لاقت دعما كبيرا من قبل واشنطن، وحلفائها الغربيين، وهو الأمر الذى تسعى تكراره مع الصين فى المرحلة الراهنة.
ولعل تنامى النزعات الانفصالية فى بعض الأقاليم الخاضغة للسيادة الصينية، سواء فى هونج كونج أو الإيجور، يمثل فرصة مهمة لواشنطن، من أجل تقويض السيادة الصينية عليها، وهو ما يبدو واضحا فى الدعم الذى قدمته الإدارة الأمريكية، عبر القانون الذى مرره مجلس الشيوخ بينما صدق عليه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، فى محاولة صريحة لممارسة المزيد من الضغوط على الحكومة الصينية.
الدعم الأمريكى الغربى للصين امتد إلى النشطاء الصينيين، المهتمين بالقضايا الاجتماعية، وهو ما يبدو واضحا فى التركيز على بعض القضايا فى الداخل، كقضايا المرأة والأقليات الدينية، وغيرها فى محاولات إثارة الفوضى فى الداخل، لإزعاج السلطات الحاكمة، وربما ابتزازها بهذه الورقة فى المستقبل.
وهنا يمكننا القول بأن الصين ربما تواجه نفس المعضلة التى سبق وأن واجهها الاتحاد السوفيتى، ربما بسبب الطموح الإمبراطورى، والذى قام فى الأساس على إخضاع الأقاليم التى تمثل محيطا جغرافيا لها، حيث تبقى الحركات المتمردة فى الأقاليم ذات النزعات الانفصالية، بمثابة شوكة كبيرة تسعى إلى استغلالها الإدارة الأمريكية من أجل تفجير الإمبراطورية الصينية من الداخل، خاصة إذا ما نظرنا إلى تاريخ انضمام تلك الأقاليم إلى سيادة بكين، والذى يعد حديث العهد نسبيا، إذا ما قورن بالولايات المتحدة، والتى احتفظت بشكلها الفيدرالى منذ تأسيسها قبل قرون طويلة.
التحركات الأمريكية لا تقتصر على مواجهة الصين عبر دعم حركاتها الانفصالية، إنما تمتد إلى السعى إلى تقويض مراكز قوتها، من خلال السيطرة على عمليات التسليح، وكذلك النمو الاقتصادى، والتى تمثل أجنحة القوة فى بكين، عبر السعى نحو ضمها إلى معاهدة القوى النووية، والتى كانت تقتصر على واشنطن وموسكو، بينما انسحبت منها إدارة ترامب مؤخرا، لصياغة اتفاقية جديدة، بالإضافة إلى التضييق الاقتصادى على بكين عبر فرض رسوم جمركية، على الواردات القادمة منها، فيما يعتبره الكثير من المحللين تصعيدا قد يقود إلى حرب تجارية شعواء، ربما تأكل الأخضر واليابس.
الخطوات الأمريكية تجاه الصين تمثل انعكاسا صريحا لرغبة واشنطن فى الحفاظ على موقعها فى صدارة النظام الدولى بلا منازع، فى ظل مخاوف كبيرة من الصعود الصينى، والذى يمثل تهديدا قويا لها، خاصة فى ظل تحالفها القوى مع روسيا، وقدرتهما معا على تهديد العرش الأمريكى على القمة، وهو النهج الذى تتبناه واشنطن ليس فى مواجهة خصومها فقط، ولكن امتد إلى الحلفاء، عبر التضييق الأمريكى غير المسبوق على الاتحاد الأوروبى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة