على جناح "دبلوماسية منتديات الشباب"، تطبع مصر بصمة جديدة فى تاريخ الاتحاد الأفريقى، وذلك ضمن البصمات المصرية التى حفل بها عام رئاسة الاتحاد الأفريقى، والذى كان مليئا بالإنجازات والأحداث، وانطلاقا من إيمانه العميق بأن تعزيز السلام كفيل بتغيير الكثير فى حياة الشعوب والأمم، كان الرئيس عبد الفتاح السيسى قد بادر - فى كلمته خلال تسلم مصر رئاسة الاتحاد الأفريقى من الرئيس الرواندى "بول كاجامى" فى فبراير الماضى - إلى إطلاق النسخة الأولى لـ"منتدى أسوان للسلام والتنمية المستدامة"، ليكون المحفل الأول من نوعه فى أفريقيا، والذى يتولى مهمة دراسة ومناقشة العلاقة بين السلم والأمن والتنمية.
ولقد جاءت فعاليات المنتدى فى نسخته الأولى على أرض "أسوان" التى تعد "عاصمة الشباب الأفريقى"، بمثابة فتح آفاق جديدة نحو تحقيق السلام والتنمية المستدامة بالقارة السمراء، فى إطار رئاسة مصر للاتحاد الأفريقى 2019، وذلك بمشاركة 48 دولة إفريقية بالإضافة إلى حضور ممثلين عن كل من: اليابان، إنجلترا، روسيا، السويد، ألمانيا، بلجيكا، كندا.
وقد تضمن أعمال اليوم الأول من المنتدى عددا من الجلسات وهى "أفريقيا التى نريدها: استدامة السلام والأمن والتنمية"، و"إسكات البنادق فى أفريقيا: ملكية أجندة منع النزاعات"، و"نحو إطار إقليمى لتحقيق السلام والأمن والتنمية فى منطقة البحر الأحمر وخليج عدن"، بالإضافة إلى جلسة بعنوان "لماذا لا يزال تحقيق السلام والتنمية المستدامين فى منطقة الساحل أمرا صعب المنال؟"، فضلا عن جلسة "بناء الدول بعد هزيمة الجماعات الإرهابية".
فيما تناولت فعاليات اليوم الثانى جلسة بعنوان "تعزيز دور المرأة الأفريقية فى تحقيق السلام والأمن والتنمية"، إلى جانب جلسة بعنوان "أمن الطاقة فى أفريقيا"، و"دور التمويل الرقمى والشمول المالى فى استدامة التنمية والسلام"، فضلا عن جلسة بعنوان "تمويل التعافى الاقتصادى بعد النزاعات: ليست التنمية بصيغتها المعتادة".
كل تلك الجلسات والمناقشات التى درات خلال يومى "الأربعاء والخميس" الماضيين، سادها جو من التفاهم والنقاش الجاد وتعددت الآراء حول ضرورة التخلص من هموم أفريقيا الكبرى، تلك القارة العجوز التى تستهدف مواردها بعض الدول الكبرى الطامحة فى تحقيق أهدافها نحو تنمية لنفسها دون غيرها، ولهذا جاء هذا المنتدى ليكون منصة إقليمية وقارية يجتمع فيها الساسة والمفكرون بهدف الدعوة لاستثمار موارد القارة السمراء المتعددة وتحويلها إلى قيمة مضافة لنا وللعالم من حولنا، فضلا عن ربط السلام بتحقيق التنمية المستدامة لتشجيع وتحفيز مؤسسات التمويل الدولية لمساعدة المشاريع التنموية بأفريقيا وجذب الاستثمارات إليها.
انعقاد المنتدى يأتى اتساقا مع رؤية مصر تجاه قضية التنمية الشاملة فى أفريقيا والتى تركز على التأكيد على أهمية تنمية القدرات البشرية فى العمل المشترك، فضلا عن إيلاء الاهتمام الكافى بالشباب الأفريقى الذى يشكل ركيزة مستقبل القارة، وذلك بتعزيز الاستثمار فيه بزيادة الاهتمام بالتعليم وتطويره على نحو يتيح للشباب اكتساب المهارات اللازمة للانخراط بكفاءة فى سوق العمل ورفع معدلات الإنتاجية والنمو، والتركيز على التحول إلى مجتمعات المعرفة بتطوير مجالات البحث والابتكار.
كان الرئيس السيسى دعا فى "قمة ستوشى" بروسيا الاتحادية أكتوبر الماضى عن إطلاق المنتدى ووجه الدعوة للمشاركين فى المؤتمر، ليكون منصة إقليمية وقارية يجتمع فيها قادة السياسة والفكر والرأى وصناع السلام وشركاء التنمية، لذا ركز فى كلمته الافتتاحية للمنتدى قائلا : ليس هناك أنسب من الوقت الراهن كى نجتمع فيه معًا فى إطار هذا المنتدى، لبحث التحديات التى تواجهنا فى أفريقيا، وفى مقدمتها استقرار حالة السلم والأمن، وتحقيق التنمية المستدامة التى نتطلع إليها، فضلًا عن حماية دولنا ومجتمعاتنا الأفريقية من تفشى وباء الإرهاب وما يرتبط به من ظواهر، لعل أخطرها تهريب وانتشار السلاح وتعاظم الجريمة المنظمة والاتجار بالبشر والهجرة غير الشرعية.
ولم يكتفى "السيسى" فى عرضه لمشكلات أفريقيا بالشكل التقليدى دون تقديم رؤى مستقبلية تكفل لنا البقاء فى هذه البقعة من العالم الذى يموج بالصراعات الكبرى، بل إنه أكد فى رؤيته قائلا: فى خضم تلك المواجهات، نجد لزاما علينا أن نتعامل أيضا بمسئولية مع التداعيات السلبية لتغيير المناخ الذى فاقم من مشكلات التصحر وندرة المياه والموارد الطبيعية، كل ذلك، فى الوقت الذى ترى فيه شعوبنا أن السلام والأمن والتنمية والرفاهية هى حقوق إنسانية، وأنها جديرة بأن تنعم بهذه الحقوق كباقى شعوب العالم.
ولأنه واحد من القادة العظام الذين يفهمون طبيعة مجريات السياسة الدولية، فقد أكد على أن مواجهة التحديات والمشكلات الأفريقية تتطلب منا تضافر كافة الجهود، استنادًا إلى المبدأ الأفريقى الراسخ "الحلول الأفريقية للمشاكل الأفريقية"، مضيفا : لقد كان إدراكنا لهذا المبدأ دافعا قويا للقادة الأفارقة فى السنوات الماضية للسعى إلى صياغة خطط واستراتيجيات محددة تهدف إلى تحقيق تطلعات الشعوب الأفريقية فى مختلف المجالات، فمن خلال اجتماعات متواصلة وجهود حثيثة، نجحت أفريقيا فى صياغة أجندة التنمية 2063 التى تلبى أهدافها احتياجات أبناء القارة.
وأشار فى هذا الصدد إلى غاية فى الأهمية وهى أن الاتحاد الأفريقى اعتمد مبادرة إسكات البنادق تهدف إلى القضاء على كافة النزاعات والصراعات فى القارة مع حلول عام 2020، من خلال إعداد أطر تنفيذية واضحة تعالج جذور النزاعات وتساهم فى إعادة الإعمار والتنمية فى فترة ما بعد انتهاء الصراع، ولا شك أن تفعيل تلك المبادرة يمثل ركنا أساسيًا فى تحقيق الاستقرار فى ربوع القارة، خاصةً من خلال بناء مؤسسات الدولة الوطنية وتمكينها من الاضطلاع بمهامها والحفاظ على مقدراتها ومساعدة شعوبها على الانطلاق نحو التنمية والرخاء.
الرئيس قدم رؤية مصر الواضحة فى كلمته أمام الجموع الحاشدة فى الجلسة الأولى أيضا حين قال: إنه لا يخفى عليكم أن توافر الإرادة السياسية لدى قادة الدول الأفريقية لحل النزاعات القائمة وتحصين الشعوب والدول من أية حروب ونزاعات ومخاطر مستقبلية إنما يؤكد التزام دولنا بتحقيق النهضة الشاملة التى صاغت خطتها دول القارة، ومن هذا المنطلق، تؤمن مصر بأن السبيل الأمثل لإقرار السلام والاستقرار فى القارة الأفريقية، وفى العالم، هو العمل على معالجة الأسباب الجذرية للمشكلات التى تهدد السلم والأمن، ومنع نشوب النزاعات والأزمات فى المقام الأول، لا سيما من خلال وسائل الدبلوماسية الوقائية والوساطة لتسوية الخلافات التى قد تنشأ بين الدول.
ولقد أعجبنى ثباته الانفعالى فى مخاطبة المجتمع الدولى بنوع من العقلانية، عندما قال السيسى: فى هذا الإطار، يهمنى أن أؤكد ضرورة تكاتف كافة الجهود الإقليمية والدولية لدعم أمن واستقرار القارة الأفريقية، استنادًا إلى مبدأ سيادة الدول والدور المحورى للحكومات فى صياغة اتفاقيات السلام وخطط التنمية وفقًا للأولويات الوطنية، بما يرسخ الملكية الوطنية لهذه الجهود، وإن تحقيق السلام واستمراره على المدى الطويل لن يتحقق سوى بتعزيز قدرة الدول والحكومات على بسط سيادتها على كامل ترابها، والارتقاء بقدراتها المؤسسية فى شتى المجالات، فالدولة الوطنية هى الوعاء الذى يضمن الأمن والاستقرار اللازمين لاستدامة التنمية.
ولأنه ابن نجيب لهذه القارة السمراء، مؤمن بدور المرأة والشباب فى تحقيق التنمية الحقيقية، فقد ذهب للقول: بأنه لا تكتمل رؤيتنا فى القارة الأفريقية للواقع الذى نبنيه، وللغد الأفضل الذى نبتغيه، إلا بإعطاء المكانة المستحقة فيهما للمرأة وللشباب، حيث إن الحديث عن تمكين المرأة وإدماج الشباب فى مختلف المجالات والمستويات يتعين أن يترجم إلى سياسات تنفيذية، وذلك بهدف مواجهة الصعاب التى نحشد الجهود لعبورها، وسعيًا لتحقيق الآمال العريضة التى نتطلع إليها.
ولأننا جميعا كأبناء لأفريقيا نعيش حالة من القلق المصحوب بالتوتر الناجم عن الخطر، فقد ذهب إلى قوله : إننا جميعا نعى العلاقة الوطيدة بين تحقيق التنمية واستقرار حالة الأمن والسلم فى قارتنا، وإذا كنا قد استطعنا سويًا التغلب على بعض المعوقات فى سبيل إحلال السلام ودفع التنمية، فإن نجاح مجهوداتنا المتواصلة بات يتطلب منا المزيد من التضافر وتكثيف العمل لمسابقة الزمن وصولًا إلى الأهداف التى نسعى إليها.
ولم ينسى التطرق إلى بعض الإيجابيات التى تطمئن أكثر على المستقبل الأفريقى قائلا: لا شك أننا اليوم نحقق خطوة هامة فى ذلك الاتجاه من خلال اجتماعنا فى منتدى أسوان، هذا المحفل الأفريقى الفريد، الذى يمثل منصة إقليمية وقارية للنقاش والحوار وتبادل الخبرات والتجارب، وإننا لعلى ثقة فى أن أعمال المنتدى، سوف تدعم مساعى القارة نحو تطوير بنية السلم والأمن الأفريقية بشكل شامل ودائم، بالتوازى مع تحقيق التكامل بين هذه البنية وبين جهود تحقيق التنمية المستدامة، وكذا بين بناء السلام والدبلوماسية الوقائية والوساطة وبين جهود التعامل مع جذور الأزمات التى تواجه القارة.
وأكد على رسالة مصر العليا وهدفها الأسمى جراء عقد هذا المنتدى فى هذا الوقت ونحن على مشارف الدخول فى عقد جديد من القرن الواحد وعشرين بقوله: لقد آثرنا أن يكون المنتدى أفريقيًا فى كل تفاصيله، سواء من حيث الفكرة أو عملية الإعداد الموضوعى والتنظيمى أو برنامج العمل والجلسات، فمنتدى أسوان يعبر عن ملكية أبناء القارة لمصيرهم ويجسد ريادتهم فيما يتعلق بالشأن الأفريقي، وإن هذه هى الضمانة الرئيسية لأن يتصدى المنتدى للمشكلات التى تواجه القارة وأن يطرح لها الحلول، وأن يبرز الفرص القائمة ويضع الخطط لاغتنامها، الأمر الذى لا يتناغم مع الانفتاح على التعاون مع الشركاء الدوليين على أساس تحقيق المنفعة المتبادلة والمكاسب المشتركة.
إن أبلغ دليل على جدوى الأفكار الجادة والرؤى المدروسة - يقول السيسى - هو تحويلها إلى واقع ملموس، وفى هذا الصدد، ما أحوجنا اليوم إلى إعادة إحياء وتفعيل سياسة قارتنا الأفريقية الإطارية لإعادة الإعمار والتنمية فى مرحلة ما بعد النزاعات، وترجمتها إلى خطط تنفيذية تحصن الدول الخارجة من النزاعات ضد أخطار الانتكاس، وتساعد على بناء قدرات مؤسساتها كى تقوم بمهامها، وتسهم فى التئام جروح مجتمعاتها، ومن هنا، نتطلع جميعًا إلى التوقيع على اتفاقية استضافة مصر لمركز الاتحاد الأفريقى لإعادة الإعمار والتنمية فى مرحلة ما بعد النزاعات، والذى نهدف إلى أن يكون بمثابة منصة تنسيق جامعة وعقل مفكر يعكف على إعداد برامج مخصصة للدول الخارجة من النزاعات، تراعى خصوصية كل دولة، وتحمى حقها فى ملكية مسار إعادة الإعمار والتنمية.
وفى النهاية بدا لى واضحا أن مصر حاليا تتبنى "دبلوماسية منتديات الشباب"، على اعتبار أنها على رأس المكاسب السياسية فى عالم اليوم الذى يموج بالأفكار والرؤى حول التنمية وتحقيق السلام، ويبدو أن إن الهدف الرئيسى من رعاية الرئيس المصرى عبد الفتاح "السيسى" لمنتديات الشباب فى نسخها المختلفة "الوطنية والإقليمية ومنتدى شباب العالم"، نابع بالأساس من توجه الحكومة لفتح حوار جاد وحقيقى بينها وبين الشباب المصرى والمسؤولين، وبالإضافة إلى المكاسب السياسية والاقتصادية والثقافية والسياحية التى تجنيها مصر على الصعيدين الإقليمى والدولى، فإن التحرك المصرى عربيا وأفريقيا مهم جدا للسياسة المصرية الخارجية الآن، لا سيما أن أغلب مواطنى العالم من الشباب، ومن ثم فإن فتح مجالات لها علاقة بالحوار بين المؤسسات المصرية والشباب والاستماع لطموحاتهم ومساهمتهم فى صنع المستقبل له قدر من الأهمية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا للدولة المصرية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة