من الكتب الإشكالية المثيرة للجدل، والمتوفرة فى معرض القاهرة الدولى للكتاب 2019، كتاب "رسالة الغفران.. صياغة معاصرة لنص أبى العلاء المعرى"، للكاتب والناقد المسرحى السورى فرحان بلبل، والصادرة عن دار ممدوح عدوان للنشر.
البداية كانت قبل أيام من انطلاق معرض القاهرة الدولى للكتاب، فى دورته الخمسين، حينما أعلنت دار ممدوح عدوان، عبر حسابها الرسمى على موقع التغريدات تويتر عن إصدارها لكتاب "رسالة الغفران.. صياغة معاصرة لنص أبى العلاء المعرى"، مشيرة إلى ما قاله فرحان بلبل، فى كلمته على غلاف الكتاب: "استبدلت الكلمات الغريبة البائدة بألفاظ عادية يفهمها القارئ، وقمت بإعادة صياغة بعض التراكيب والجمل بحيث تتخلص من مُعاظلتها، التى كان بعضها دليل الفصاحة والبلاغة فى ذلك العصر".
بعد هذا الإعلان شن عدد كبير من جمهور القراء والمتخصصين، هجومها على الناقد فرحان بلبل، وما أقدم عليه فى رسالة الغفران لأبى العلاء المعرى، وصل إلى حد السخرية، ومطالبته بتقديم رسوم كرتونية توضيحية للنص.
وبعد انطلاق معرض القاهرة الدولى للكتاب طرحت دار ممدوح عدوان للنشر، فى جناحها، للجمهور كتاب "رسالة الغفران.. صياغة معاصرة لنص أبى العلاء المعرى"، والذى حصل "اليوم السابع" على نسخة منه، ويقع الكتاب فى 400 صفحة، مكونا من جزأين، الأول يتكون من القسم المخصص لرسالة ابن القارح إلى المعرى، والقسم الثانى، نص رسالة الغفران ردًا على رسالة ابن القارح، أما الجزء الثانى، فجاء تحت عنوان "الإجابة على رسالة ابن القارح" ومكون من 63 فصلا.
ويستهل فرحان بلبل مقدمة كتابه "رسالة الغفران.. صياغة معاصرة لنص أبى العلاء المعرى" بحكاية كان شاهد عيان فيها، وتوضح أسبابه التى دفعته لتقديم صياغة معاصر لنص رسالة الغفران، حيث يقول: "دعيت مرة إلى حفلة غناء وطرب فى محل عام بمناسبة زفاف أحد الأصدقاء. وكان أحد فنانى حلب مع فرقته يحيى هذه الحفلة، وكان صاحب صوت قوى شجى، وصادف أن وجد فى الحفلة واحدًا من أهم مطربى مدينتى حمص. وكان أيضا صاحب صوت قوى وشجى مطرب. فاقتضت اللياقة أن يدعى الضيف الحمصى للمشاركة فى الغناء. فغنى الرجلان ساعة أو بعض الساعة. فأطربا وهما يشرقان فى الألحان ويغربان. وفجأة دبت بينهما روح التنافس. فأخذ كل منهما أن يجبر حنجرته على أداء ما لا تستطيع. وإذا بهما يجرحان صوتيهما ويجرحان مشاعرنا وآذاننا حتى انقلب الحفل إلى صراخ بغيض بحث فيه الأصوات، وزعقت فيه الآلات المرافقة، وإذا بالحاضرين يتسللون واحدًا بعد واحد. ثم وجدت نفسى أهرب راكضا بابتعاد مع أننى كنت ضيف الشرف فى ذلك الحفل غير البهيج".
هذه الحكاية كما يقول فرحان بلبل، تذكرها وهو يعود إلى رسالتى ابن القارح وأبى العلاء المعرى: "فهما يتباريان فى الإتيان بغريب الألفاظ وحوشى الكلام من ناحية، ويتلاعبان بتقديم وتأخير الضمائر من ناحية، ويتركان كثيرًا من الجمل تدخل ميدان التداخل والتمازج حتى لا يصل القارئ إلى المعنى إلا بصعوبة من ناحية ثالثة".
ويرى فرحان بلبل أن ذلك "كان نتيجة أنهما جرحا رسالتيهما وجرحا معانيهما. وما فعلا ذلك إلا لأن رسالتيهما لن تقتصرا عليهما فقط. فهما يعلمان كل العلم أن هاتين الرسالتين سوف يقرؤهما الناس. فابن القارح - باعترافه - جعل الناس يقرؤون رسالته قبل إرسالها إلى المعرى. وهو يقر بأنه سينشر رسالة المعرى بين الناس لكى يستفيد منها من يقرؤها. وإذا فإن المباراة بينهما علنية يفوز فيها من يفوز ويخسر فيها من يخسر".
ماذا فعل المعرى فى رسالة الغفران
ويقول الناقد السورى فرحان بلبل: "اعترف أن أبا العلاء فاز فوزا ساحقا فى هذه المباراة العلنية المجنونة. فقد أتى لا بغريب الألفاظ وحوشيها وبائدها فحسب. بل بالميت منها الذى هجره الجاهليون أنفسهم. ولعله لم يترك لفظا من لهجات القبائل التى قضى عليها بعد نزول القرآن إلا وحشرها فى رسالته".
الألفاظ الميتة لدى العرب
ويضع فرحان بلبل نفسه مكان القارئ، فيقول: "قد يقول قائل - وكثيرون قالوا هذا القول - إن المعرى حفظ المعجم العربى من الضياع حين استدرك ما عجز غيره عن الإتيان به. وقائلو هذا القول يبدون إعجابهم بـ"العجاج" وابنه "رؤبة" وأمثالهما لأنهم اشتهروا فى شعرهم ورجزهم بالغريب. ونالوا عند البعض مكانة مرموقة أتتهم من غرابة ما جاؤوا به من ميت الألفاظ لا من قوة الشاعرية وفسحة الخيال.
ويضيف فرحان بلبل: "لا أعرف موقفًا أكثر ضلالة من موقف هذين الشاعرين وأمثالهما وممن يؤيدونهما من نقاد العصر الحديث والقديم. فهذه الألفاظ التى ماتت لا قيمة لإحيائها لأن أحدا لن يستعملها، ولأنها صارت عبئا على جناحى اللغة العربية القادرين على الطيران فى مختلف أنواع العلوم والفلسفات والاختراعات. ولعل العربية واحدة من أغنى لغات العالم فى قدرتها على مواكبة تطور العلوم مهما أسرعت فى تقدمها واختراعاتها. وأجزم أن محاولة الاحتفاظ بغرائب الألفاظ وميتها وبائدها يقص كثيرا من قوادم أجنحة اللغة العربية وخوافيها. شأنها فى ذلك شأن أجساد المتوفين. فبدلا من دفنهم إكراما لهم، فقد وضعناهم فى البرادات انتظارا لمن يحييهم. فما قدر على إحيائهم أحد، وشغلوا فى البراد مكانا كان يمكن أن نضع فيه الأطعمة والأدوية.
أسباب صياغة رسالة الغفران
ويرى فرحان بلبل، أن "أول أثر أدبى ارتبك بهذه المحافظة على غرائب الألفاظ وحوشيها وميتها وبائدها هو "رسالة الغفران" ذاتها. فمع أننا - نحن العرب - نتغنى بها وندرسها ونجعلها سابقة على جحيم "دانتى"، وندعى أن الشاعر الإيطالى تأثر بها. ونعقد الدراسات والندوات على هذا السبق المكذوب، فإننا لا نستطيع قراءة "رسالة الغفران" إلا بصعوبة تستهلك من كبار متخصصى اللغة والمتبحرين فيها جهدًا ووقتا يشعرون بعدها أنهما وقت وجهد أقرب إلى أن يكونا ضائعين. أما الأقل تخصصا، فيكتفون بما كتب عن الرسالة، أما عامة القراءة ممن يوصفون بحق أنهم مثقفون، فيهملونها ويبتعدون عنها، وإذا بهذه الرسالة الفريدة التى نعتز بها فى التراث العربى تموت وتبقى فى أدراج البرادات لأنها تخرج من القدرة على الحياة.
ويؤكد فرحان بلبل، أنه "انطلاقا من هذه الأمنية فى أن يقرأ كل العرب ما يستطيعون قراءته من التراث القديم إلى الآثار الحديثة، رجعت إلى رسالة الغفران لوضعها بين أيدى كبار الدارسين ومتوسطيهم ومن هم دون ذلك. لكن كيف نعود إليها بشغف ولهفة وقدرة على الاستفادة منها بعدما ابتعد القراء عنها حتى لم يبق لها مكان إلا من أقصى زوايا المكتبات لأنه لا يمكن قراءتها مهما أغرينا القراء.
ويوضح فرحان بلبل، أن إعادة صياغة رسالة الغفران تعنى عدة أمور:
أولا: استبدلت الكلمات الغريبة البائدة بألفاظ عادية يفهمها القارئ العادى. وهذا الاستبدال تم مع الحرص الشديد فى المحافظة على نسق تركيب الجملة عند المعرى وعلى تشبيهاته الرائعة التى تنبئ عن مخيلة واسعة، وبهذه الطريقة التى اتبعناها تجلى جمال أسلوبه الذى يتفرد به فى عصره ويلتزم فيه بما هو متعارف عليه من أصول التأليف فى عصره وبين أقرانه. فكانت إعادة الصياغة لها أشبه بجلاء الحيلة الذهبية المغبرة ليعود إليها بريقها. وهذا ما حدث فى إعادة صياغة رسالة ابن القارح.
ثانيا: لكن ذلك لم يمنعنى من إعادة صياغة بعض التراكيب والجمل بحيث تتخلص من معاظلتها التى كان بعضها دليل الفصاحة والبلاغة فى ذلك العصر، وحولتها إلى تراكيب وجمل سهلة هى مقياس الفصاحة والبلاغة فى هذا العصر، وذلك دون الإخلال بأسلوب المعرى أو بأسلوب ابن القارح.
ومن أصعب المشاكل التى واجهتنى فى إعادة صياغة التراكيب والجمل مشكلة إحالات الضمائر إلى من تعود إليه. وابن القارح أشد تعقيدا من المعرى فى التعامل مع الضمائر. وكثير من هذه الجمل والتراكيب وقف عندها دارسو "الغفران" و"رسالة ابن القارح" ومحققو الرسالتين وقالوا: "إن المعنى غير مفهوم"، وقد حاولت جهدى أن لا أترك جملة غير مفهومة، فتحايلت عليها لأصل إلى معناها من سياق الكلام ومن الفكرة التى يناقشها ابن القارح أو المعرى.
ثالثا: يعالج المعرى على الخصوص - ومثله ابن القارح - عشرات من القضايا النحوية والعروضية واللغوية بحسب طرائق عصره فى معالجتها. ومثل هذه المعالجات تختلف فى كثير أو قليل عن طريقة معالجتنا لها فى العصر الحديث، وقد عالجتها بطرائقها المعاصرة بحيث يفهمها طالب المرحلة الثانوية كما يفهمها الطالب الجامعى وطالب الدارسات العليا.
رابعا: لا يمكن إجراء مثل هذه التغييرات على الشعر. فأبقيت عليه لأنه لا يحق لنا المساس به. لكنى قدمت شرحا وافيا لكل بيت شعرى إن كان غير واضح المعنى، وهو أمر كثيرا ما هرب منه من سبقنى فى تحقيق "الغفران" أو "رسالة ابن القارح".
خامسا: حرصت الحرص كله على أن لا أحذف شيئا من الرسالتين. لكن بعض الجمل والتراكيب لم أتمكن من الوصول إلى معانيها كما لم يتمكن غير من الوصول إليها، خاصة وأن المعرى أتى بها على سبيل الأمثولة إغراقا فى استعمال ميت الألفاظ فحذفتها. وهى فى مجموعها لا تزيد عن خمسين سطرا أو أكثر بقليل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة