استمعت محكمة الجنح المستأنفة إلى مرافعة النيابة ثم دفاع المحامين، وأصدرت حكمها بحبس المتهم ثلاثة أشهر يوم 25 أغسطس، «مثل هذا اليوم» عام 1909، حسبما يؤكد عبدالرحمن الرافعى فى كتابه«محمد فريد رمز الإخلاص والتضحية».
كان المتهم هو الشيخ «عبدالعزيز جاويش» رئيس تحرير جريدة اللواء التى أسسها الزعيم مصطفى كامل عام 1900، وأصبحت ناطقة بلسان الحزب الوطنى بعد تأسيسه فى عام 1907، وحسب فتحى رضوان فى كتابه «مشهورون منسيون»، فإن جاويش تعرف على مصطفى كامل عن طريق محمد فريد فى عام 1905، ويضيف: «بقى الشيخ عبدالعزيز جاويش موظفا حكوميا، حتى كانت سنة 1908 التى شهدت فى 10 فبراير منها وفاة مصطفى كامل، فقدم استقالته من الوظيفة وتولى رئاسة تحرير اللواء، خلفًا للزعيم الشاب، ونشر له فى 2 مايو 1908 مقاله السياسى الأول».. ويرى رضوان «أن حياة مصر فى تلك الحقبة، كان فيها «الشيخ» أحد خمسة أو ستة، اتخذ التاريخ منهم محاور يدور حولها، وهؤلاء هم، مصطفى كامل، محمد فريد، الخديو عباس الثانى، واللورد كرومر مندوب الاحتلال البريطانى فى مصر، وخامسهم بلا جدال الشيخ عبدالعزيز جاويش، وقد يليهم الشيخان على يوسف ومحمد عبده».
يؤكد «رضوان» أن جاويش خاض أول معاركه كرئيس تحرير اللواء حين كتب يوم 5 مايو 1908 عن المذبحة التى أقامها الإنجليز فى السودان فى منطقة «الكاملين» التى خرج فيها زعيمها «عبدالقادر إمام يدعى النبوة، والتف حوله لفيف من أنصاره فأوفدت الحكومة السودانية عددًا من الجنود برئاسة ضابط بريطانى بمساعدة ضابط بريطانى مصرى، فأبادهم عبدالقادر إمام جميعا، فأرسلت الحكومة حملة أكبر، وبعد معركة بين الطرفين جرح فيها ضابطان بريطانيان وقتل فيها ضابطان مصريان وجنود كثيرون، تمكنت حكومة السودان من القبض على زعيم الفتنة، وقدمته وقدمت أنصاره لمحاكمة عسكرية مستعجلة حكمت على سبعين من أنصار عبدالقادر بالموت شنقًا، فثارت ثائرته، وكتب مهاجما قائلا، إن حادثة الكاملين أقبح وأمعن فى الظلم من حادثة دنشواى، فاقتيد إلى المحاكمة بتهمة نشر أخبار كاذبة، وقضت محكمة عابدين بتغريمه 20 جنيها لإهانته وزارة الحربية فاستأنف الحكم وقضت المحكمة ببراءته يوم 30 أغسطس 1908.
خرج «جاويش» من هذه المعركة، وكان موعده مع معركة أخرى قادته هذه المرة إلى السجن، وجاءت فى سياق سياسى يصفه عبدالرحمن الرافعى قائلا: «اشتدت فيه الحركة الوطنية بعد وفاة زعيمها مصطفى كامل، فأخذت الحكومة تحاربها بوسائل العنف والاضطهاد، وأول سلاح شهرته الوزارة لتحقق هذه الغاية هو تقييد حرية الصحافة، فأصدر مجلس الوزراء فى 25 مارس سنة 1909 قرارا بإعادة العمل بقانون المطبوعات القديم الصادر فى 26 نوفمبر سنة 1881 إبان الثورة العرابية، وكان قد بطل العمل به منذ زمن بعيد».
فى هذه الأجواء كتب «جاويش» مقالا فى «اللواء» يوم 28 يونيو 1909 فى ذكرى مرور عام على «حادثة دنشواى»، هاجم فيه بعنف الاحتلال الإنجليزى وبطرس غالى باشا وزير الحقانية الذى كان رئيسا للمحكمة، التى قضت بإعدام وجلد وسجن فلاحى دنشواى المتهمين ظلما فى الحادثة.. قال «جاويش»: «سلام على أولئك الذين كانوا فى ديارهم آمنين مطمئنين.. فنزل بهم جيش الشؤم والعدوان فأزعج نفوسهم وأحكم حصارهم فلما هموا بصيانة أرزاقهم قيل إنهم مجرمون».. وأضاف: «سلام على تلك الأرواح التى انتزعها بطرس غالى رئيس المحكمة المخصوصة القضائية من مكانها فى أجسامها».
ويؤكد «الرافعى» أن النيابة عدت هذا المقال طعنًا فى حق بطرس باشا، وأحمد فتحى باشا زغلول أحد أعضاء المحكمة، فأقامت الدعوى العمومية أمام محكمة عابدين الجزئية، وكان يرأسها محمود بك على سرور، وتولى الدفاع عنه أحمد لطفى بك، وإسماعيل شيمى بك، ومحمود بسيونى رئيس مجلس الشيوخ فيما بعد، وبعد أن سمع القاضى مرافعة النيابة ودفاع المحامين قضى يوم 5 أغسطس سنة 1909 بالحكم على الشيخ جاويش بغرامة قدرها أربعون جنيها، واسـتأنف الشيخ جاويش الحكم، فقضت محكمة الاستئناف بحبسه ثلاثة أشهر يوم 25 أغسطس 1909، ووفقا للرافعى: «قوبل هذا الحكم بالدهشة والاستياء الشديد، وكانت له ضجة كبيرة، ورفع محامو الشيخ نقضا قضى برفضه»، ويذكر رضوان جانبا من ردود الفعل قائلا: «أثار الحكم سخط الشعب، وتألفت المظاهرات احتجاجا عليه، واحتاطت الحكومة لمنع هذه المظاهرات، وامتلأت صحف الحزب الوطنى بمقالات غاية فى العنف ضد الحكومة، واكتتب أنصار الحزب الوطنى والمعجبون بالشيخ بمبلغ كبير اشتروا به وساما من حرير ثمين، مزين بثلاث قطع ذهبية مرصعة بالأحجار الكريمة، فلما أطلق سراحه أقيم له احتفال ضخم فى فندق شبرد وسلم له الوسام فى مساء يوم 22 من فبراير سنة 1908».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة