صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة كتاب "مدخل إلى نقد الموسيقى العربية" للدكتور أشرف عبد الرحمن الأستاذ فى معهد الموسيقى العربية، الكتاب تعود أهميته إلى كونه النواة الأولى لوضع مناهج ومعايير جديدة فى عالم النقد الموسيقى فى الموسيقى العربية، حيث يمثل النقد نقطة هامة فى تنمية الذوق الموسيقى، وكذلك فى توعية المبدعين للكثير من النقاط التى قد تغيب عنهم فى بعض الأحيان، المؤلف يرى أن ما أطلق عليه قبح الموسيقى العصرية فى القرن العشرين والذى ظل لمدة طويلة موضع جدال، بات مسألة ثانوية، فدرجة القبح أو بمعنى آخر الحد الذى تقبله الأذن المدربة، متغيرة دائما.
المؤلف خلص فى كتابه إلى سمات الموسيقى والغناء العربى فى القرن العشرين على النحو التالى:-
- إدخال التعبيرية فى الألحان الغنائية والبعد عن الجانب التطريبى فى أغلب الأحيان والذى كان مسيطرا على ألحان القرن التاسع عشر، وكان رائد هذا الاتجاه التعبيرى الفنان سيد درويش.
- أصبح هناك طابع مميز لموسيقانا المصرية ومذاق خاص ليتم التخلص من الأسلوب التركى الذى سيطر على الكثير من الألحان لكبار الفنانين المصريين طوال القرن التاسع عشر، ويرجع الفضل فى ذلك لسيد درويش أيضًا، ولكن نواة التجديد والتمصير لموسيقانا قد بدأ شعاعها على يد كل من الفنان عبده الحامولى ومحمد عثمان فى نهايات القرن التاسع عشر.
- دخول الآلات الأوركسترا لية الغربية وكبير حجم الفرق الموسيقية وزاد عدد العازفين، حيث كانت الفرقة الموسيقية فى القرن التاسع عشر تحتوى على عدد محدود من الآلات الموسيقية وهى آلات التخت الشرقى (قانون – عود – رق – ناى – كمان) فى تنفيذ الأعمال الغنائية فأعطت هذه الآلات الموسيقية الغربية ثراءً وعمقًا للألحان المصرية.
- أصبح هناك دور مهم للموسيقى داخل الأعمال الغنائية، لا يقل أهمية عن أداء المطرب وجمال صوته، حيث لم تعد الفرقة الموسيقية مجرد مصاحبة للمطرب فقط، بل أصبحت تعزف المقدمات الموسيقية والفواصل واللزم الموسيقية داخل الأغنية بشكل أكثر إمتاعًا للمستمع مثلما يستمتع بغناء وصوت المطرب تمامًا.
- ظهور المقدمات الموسيقية الطويلة فى بداية الكثير من الأعمال الغنائية لكبار المطربين والمطربات خاصة فى قالب القصيدة، حيث نجد المقدمات الموسيقية الشجية والتى تعد فى حد ذاتها عملا موسيقيًا مبهرًا بعيدًا عن كونها جزءًا من أغنية، حيث يمكن الاستمتاع بمثل هذه المقدمات الموسيقية وكأنها مستقلة بذاتها كمقطوعة موسيقية.. وكان ذلك واضحًا فى الكثير من قصائد أم كلثوم وعبد الوهاب.
- ظهور المقطوعات الموسيقية البحتة لتحل محل البشارف والدولاب والسماعيات واللونجا التى كانت تقدم من قبل.. وكان رائدًا هذا الاتجاه الفنان محمد عبد الوهاب (1897- 1991) الذى قدم حوالى 43 مقطوعة مثل (ابن البلد – الحنة – خطوة حبيبى – عش البلبل.. الخ). وتأثر به الكثير من الملحنين فى هذا الدرب مثل فريد الأطرش ومحمد فوزى اللذان قدما عشرات المقطوعات الموسيقية البحتة أيضًا.
- ظهور الكثير من الأعمال الغنائية التى تمزج بين الموسيقى العربية والموسيقى الغربية، بإدخال آلات موسيقية أوركسترالية فى الألحان المصرية واستخدام إيقاعات غربية.. وكان رواد هذا الاتجاه محمد القصبجى ومحمد عبد الوهاب.
- أصبح هناك انتقاء للكلمة المغناة حيث الاهتمام بالمضمون الشعرى كانت من أهم سمات الغناء فى القرن العشرين، وساعد على ذلك وجود الكثير من الشعراء الكبار الذين انتقلوا بالشعر وبالغناء إلى مرحلة أخرى جديدة تتسم بالرقى والعمق فى المعنى والبلاغة فى التعبير، وكان من أمثال هؤلاء الشعراء بديع خيري، بيرم التونسي، أحمد شوقي، أحمد رامي، حافظ إبراهيم، محمود سامى البارودي، على محمود طه، إبراهيم ناجي... وغيرهم من أصحاب الفكر المتجدد، حيث كانت الأعمال الغنائية فى القرن التاسع عشر رغم جمال ألحانها وبراعة أدائها، إلا أن أغلبها كانت ذات مضمون شعرى غزلى قد يبدو سطحيًا فى أغلب الأحيان.
- بدأت بعض القوالب الغنائية التى كانت سائدة فى القرن التاسع عشر فى التراجع والاندثار مع دخول القرن العشرين مثل قالبى (الدور والموشح).
- ظهرت قوالب غنائية جديدة مثل (الطقطوقة) لينتشر هذا القالب انتشارًا واسعا من بدايات القرن العشرين ويصبح هو القالب الأساسى والغالب على كافة أعمال ملحنى ذلك القرن.
- ظهر قالب الدويتو (الثنائي) وانتشاره أيضًا حيث بدأ هذا القالب فى المسرح الغنائى وكان من أوائل رواد ومبدعى هذا القالب سيد درويش، وسرعان ما انتقل الدويتو إلى السينما منذ بدايتها وليتطور وينتشر انتشارًا واسعًا فى الأفلام السينمائية الغنائية، وكان أول من أبدع فى هذا القالب أيضًا ودخوله فى الفيلم الغنائى لحنًا وغناءً هو محمد عبد الوهاب.
- ظهر قالب (المونولوج) وتطور إلى أقصى درجة من التطور، وكان أول من وضع ملامح هذا القالب وأرساه كان الملحن محمد القصبجي، مثلما فعل فى مونولوج (إن كنت أسامح وأنسى الأسية) عام 1927 غناء أم كلثوم ومن كلمات أحمد رامى.. وقام محمد عبد الوهاب بالتجديد والتطوير لقالب المونولوج منذ بداية ظهوره أيضا فى العشرينات من القرن العشرين، كما حدث فى مونولوج (أهون عليك) عام 1928 من كلمات محمد يونس القاضي.
- تطور قالب (القصيدة) إلى أقصى درجة من الإبداع الفنى وكان أعظم من أبدع فى هذا القالب محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي، حيث القصيدة قد ظهرت فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر على يد عبده الحامولى ومحمد عثمان، ولكن تبلورت وتطورت إلى أقصى درجة من الإبداع خلال القرن العشرين.
- تطور العديد من الألوان الغنائية منها (الغناء الوطني)، فنجد أن الأغنية الوطنية أخذت أشكالاً عديدة وأصبحت من أهم ألوان الغناء فى ذلك القرن منذ ثورة 1919 وما أنتجه سيد درويش من أغانى وأناشيد وطنية بشكل جديد وبأسلوب حماسى لم يكن موجودًا من قبل.. لتتوالى الأحداث السياسية وليشهد القرن العشرين الكثير من التغيرات السياسية المتلاحقة خاصة فى مصر منذ ثورة 1919 وثورة 1952 حتى فى وقت الهزيمة 1967 وانتصار أكتوبر المجيد 1973، والكثير من الأحداث الوطنية الهامة أيضاً التى سجلها الفن والغناء مثل بناء السد العالي، تحرير سيناء، فكل هذه الأحداث كان للأغنية الوطنية دور هام وكبير فى التعبير عنها والتأريخ لها، وكان لكل حدث تمر به مصر أغنياته التى صاحبته لتعبر عنه لتصل الأغنية الوطنية إلى أقصى درجة من التطور حتى انتصار 1973.. ولكن شهد الغناء الوطنى تدهور واضحًا بعد ذلك منذ فترة الثمانينيات من القرن العشرين.
- تطور الغناء الدينى أيضًا ووصل إلى أقصى درجة من الإبداع ولم يعد الغناء الدينى يقتصر على المشايخ والمبتهلين والمنشدين، بل تم إدخال الغناء الدينى إلى قالب القصيدة الدينية وكان لرياض السنباطى وأم كلثوم الفضل الأول فى ذلك، فنجد قصيدة (ولد الهدى) و(الثلاثية المقدسة) و(القلب يعشق كل جميل) وغيرها من القصائد الدينية الرائعة. كما تناول الفنان عبد الحليم حافظ والملحن محمد الموجى تقديم نوع جديد غير تقليدى من الغناء الدينى وهو أشبه بالدعاء الدينى القصير ليقدما معا حوالى 12 دعاء دينى بشكل جديد وكان كاتب كل هذه الأدعية الدينية الشاعر المتدين عبد الفتاح مصطفى، وقام الملحن محمد الموجى بجعل المقدمة الموسيقية والنهاية لكل هذه الأدعية ثابتة ولكنه مع بداية الغناء نجد كل دعاء من مقام ولحن آخر، مما جعل بدايات ونهايات هذه الأدعية الدينية ذات سمة خاصة بها تميزها عند سماع نغماتها لأول وهلة.
- ظهور اتجاهات موسيقية عديدة وأفكار جديدة فمنها الكلاسيكية الحالمة التى تتسم بالوقار والهيبة كما فى أعمال رياض السنباطى، ومنها المتجددة التى تنفتح على العالم الغربى والتأثر بسحر الموسيقى العالمية كما فى بعض أعمال محمد عبد الوهاب ومحمد القصبجى، ومنها الموسيقى التى تتسم بالأصالة والمحافظة والتى هى تعبر عن أعماق وجذور الموسيقى الشرقية الأصلية حيث تتسم بالتطريب وسلطنة المشايخ ولكن بشكل جديد كما فى أعمال الشيخ زكريا أحمد.
- ظهر لأول مرة فى مصر موسيقى ومؤلفات أوركسترالية لمؤلفين مصريين أمثال (يوسف جريس، أبو بكر خيرت، إبراهيم حجاج، فؤاد الظاهري، عزيز الشوان، عطية شرارة، عزيز الشوان، على إسماعيل،...).
حركة النقد الموسيقى فى مصر فى السنوات المقبلة فى رأى المؤلف هى القادرة على إعادة الأغنية العربية إلى مسارها الصحيح من جديد، وعلى رفع الذوق العام الذى افتقدناه لسنوات طويلة بسبب هذا الإسفاف الغنائى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة