الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه إلى يوم القيامة وبعد..
الحياة تشهد الانتصار والانكسار، لكن أن تنتصر دائمًا لا شك أن ذلك بتوفيق من الله تعالى لموهبة فذة وعقلية متفردة وشخص متميز، إنه سيف الله المسلول ريحانة قريش، خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومى القرشى، سيِّد بنى مخزوم ومن سادات قريش، كان جوادًا حتى قبل إسلامه، حيث كان يكسو الكعبة عامًا وقريش أجمعها تكسوها عامًا، إنه القائد الحربى المحنك، المشهور بتكتيكاته ودهائه العسكرى ومواهبه القيادية الحربية، قاتل الإمبراطوريتين البيزنطية- الرومانية، والساسانية الفارسية، فى أكثر من مائة موقعة، ما هُزِم مرة واحدة رغم تفوق الأعداء فى العدة والعتاد، قبل إسلامه عُرِفَ بأنه واسع الثراء رفيع النسب والمكانة، ظهرت موهبته الحربية مبكرًا مما دفعه لتعلم فنون الفروسية وهو صغير السن، فلاحظ الجميع عليه تفوقًا منقطع النظير، فكان يقف بين أقرانه يقود فرسه برجليه ويحمل بيديه سيفين فى آن واحد هو والزبير بن العوام، مما أهله ليكون أحد قادة فرسان قريش، لكن قد يسأل سائل: وأين كان ابن الوليد فى غزوة بدر الكبرى ولماذا لم يسمع له ذكر فى فرسان قريش وهو المشهور بما ذُكِر؟ والإجابة أنه كان بعيدًا فى بلاد الشام فسلمه الله من القتل فى هذه الغزوة المباركة، لكنه بعد عودته وانتظام صفوف المشركين فى غزوة أُحد لم يترك الفرصة واشترك فى المعركة، وبعد التفوق الواضح لجند الإسلام استطاع خالد أن يربك صفوف المسلمين حين تخلى بعض الرماة عن مواقعهم التى حددها رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقَتَل يومئذٍ عددًا كبيرًا من المسلمين، قبل أن يتدارك الباقون هذا الخطأ الجسيم، وتمر الأيام وتحمل فى طياتها حدثًا مهمًّا فى تاريخ الدعوة الإسلامية، إنه صلح الحديبية الذى سماه القرآن بالفتح المبين «إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا»، ويسلم الوليد بن الوليد الأخ الشقيق لخالد، ويدخل الرسول- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مكة فى العام التالى فى عمرة القضاء، وبعين الخبير الذى يعرف قدر الرجال ومواهبهم وما وهبهم الله من الملكات يقول للوليد: «أَيْنَ خَالِدٌ؟»، كأنه يريد تلك الجوهرة النادرة والخبرة النيرة ليضعها فى مكانها المناسب، فيرد الوليد بقوله: «يأتى به الله»، فيرسل إليه النبى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رسالة يعلم أن الفطناء لا بد أن يلتقطوها، فيقول «مَا مِثْلُهُ جَهِلَ الْإِسْلَامَ، وَلَوْ كَانَ يجعل نِكَايَتَهُ مَعَ المُسْلِمِينَ عَلَى المُشْرِكِينَ كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَقَدَّمْنَاهُ عَلَى غَيْرِهِ»، ويسرع الوليد فى البحث عن أخيه خالد، فلم يجده، فيكتب له رسالة: «بسم الله الرحمن الرحيم، أمَّا بعدُ.. فإنى لم أَرَ أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام، وَعَقْلُهُ عَقْلُكَ، ومِثْلُ الإسلام يجهله أحدٌ؟! وقد سألنى عنك رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: «أَيْنَ خَالِدٌ؟».. فاستدركْ يا أخى ما فاتك فيه؛ فقد فاتتك مواطن صالحة»، وتصل الإشارة النبوية إلى القلب النقى وتصل رسالة إلهية أخرى، فيرى فى منامه كأنه فى بلادٍ ضيِّقة جدبة، وأنه خرج منها إلى بلد أخضر واسع، فيتأكد أنه قد آن للقلب أن يخشع، وللعقل أن يقبل، وقبل فتح مكة بستة أشهر يسرع إلى مدينة رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويبدأ ابن الوليد فى مرحلة جديدة من حياته يريد أن يكفر عن ماضيه فى الصد عن دعوة الله، وليستدرك ما فاته من جهاد فى سبيل الله، فبعد إسلامه بنحو شهرين يشترك مع المسلمين فى غزوة مؤتة ويستشهد القادة الثلاثة: زيد بن حارثة، ثم جعفر بن أبى طالب، ثم عبدالله بن رواحة، ويلتقط ثابت بن أرقم راية المسلمين ويحملها عاليًا، وينادى على خالد لحملها فيقول له خالد: «أنت أحقُّ به، لك سنٌّ وقد شهدتَ بدرًا»، فيجيبه «خذه فأنت أدرى بالقتال منى، ووالله ما أخذتُه إلَّا لك»، ويطالب عموم الجيش المسلم بتولى خالد مقاليد القيادة، وهو الذى أسلم من شهرين فقط.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة