علينا نحن الصبية الصغار أن نقف صفا واحدا فى عرض الطريق الأسفلتى، نتأهب خلف الإطارات المتهالكة للسيارات القديمة، وننتظر أن يصعد الجد «أحمد شحاتة» العتبة الغربية للكوبرى، يتلفت يمينا ويسارا وينظر فى ساعة يده عدة مرات وعيوننا معلقة بوجهه، ثم يستوى ناحية القبلة ويرفع كفيه كى تحيطان بوجهه ويهتف «الله أكبر...» فننطلق مسرعين متنافسين إلى بيوتنا القريبة/ البعيدة.. ونحن نهتف بملء حناجرنا «افطر يا صايم ع الكحك العايم.. افطر يا عسكر ع الكحك أبو سكر».. وعلينا أن نعد أنفاسنا خشية أن نهتف بهذه الكلمات قبل أن يؤذن الجد، لأن أى خلل فى ذلك سيترتب عليه أن يلازمنا لوقت طويل إحساس بالذنب بأننا قد أفطرنا الملائكة الصائمين.. أولئك الذين ينتظرون مثلنا فى السماء أن يؤذن أحمد شحاتة فى الأرض وأن نهتف نحن الصبية المتأهبين خلف ألعابهم الصغيرة «افطر ياصايم».
طالما يجلس أحمد شحاتة على الجسر فالدنيا أمان، هذا هو إحساسنا بالرجل، الذى ألقى الله محبته فى قلوبنا ومنحه الكثير من الهدوء والوعى والقدرة على التسامح.
كنت فى عمر أحفاده، أقاربى وأصدقائى، نحمل له جميعا الكثير من الاحترام والحب، يملك خصوصية غريبة بشخصيته المختلفة البعيدة عن الغضب والمتقبلة للنقاش، والمحتفظة فى الوقت نفسه بـ هيبتها.
لم يكن طويلا ولا قصيرا، كان بشوشا منطلق الوجه، كلامه ممتلئ بخبرات حياتية لا نعرفها، لكنه خرج من القرية كثيرا وعاد ليصبح مؤذن الجامع الذى يحمل صوته قوة وعاطفة فى الوقت نفسه، فلم يكن صوته خائفا أو محبوسا، بل كانت كلمة «الله أكبر» عندما يقولها تصل إليك أينما كنت تدعوك للصلاة تأمرك وتأخذ بيدك، كانت الكلمة تخرج وبها جزء من شخصية أحمد شحاتة، حروفه مكتملة النطق، ونبرة صوته بها قوة تشعرك بقوة الصلاة وتمهل يليق بجلال الكلمات الطاهرة التى تخرج من فمه.
كان يحتفى بى كلما وجدنى فى المسجد، ويذكرنى بأن أحد أجدادى كان خريج الأزهر، وكنت أحمل اسمه لذا كان ينادنى وأنا طفل بلقبه فلا يقول اسمى، رغم سنواتى العشرة إلا مصحوبا بكلمة «الشيخ».
كنت أحس بأن أحمد شحاتة رجل خبر الدنيا وعرفها لدرجة أنه صارت لا تساوى لديه شيئا، تبهرنى قدرته على الاستماع للآخرين وهم يشكون إليه أحوال الأيام وغدرها، بينما الرضا لا يفارق وجهه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة