نفخر دائما بأن الأمة المصرية هى التى شهدت بزوغ فجر الضمير الإنسانى بما يعنيه من تحولات للإنسانية كلها من صورتها الهمجية الحيوانية إلى صورتها المتحضرة الراقية التى تبنى المجتمعات وتقيم الدول، وتسن القوانين، وتضع منظومة القيم وفى مقدمتها القيم الأخلاقية، وطبعا تعرفون الكتاب العمدة «فجر الضمير» لجيمس هنرى بريستد وترجمة الراحل سليم حسن، عن الحضارة المصرية القديمة ودورها فى قيادة الإنسانية إلى اكتشاف الضمير ومنظومات القيم والأخلاق والقانون والفنون وإهدائها للعالم أجمع.
الكتاب يوضح كيف مثلت قيمة العمل حجر الأساس فى منظومة القيم المصرية القديمة التى استطاعت نقل الإنسانية من البربرية إلى المدنية الأولى، وإلى تغيير تصورات الإنسان عن نفسه من وحش صياد يقتل منافسيه بالحجر أو البلطة أو الخنجر إلى قيّم على الكائنات والموارد الطبيعية، وإنسان يعى أن له حقوقا وعليه واجبات، ورسالته فى الحياة هى تعمير الأرض ونشر السلام، حتى انطفأ قبس الحضارة فى مصر- بتعبير المؤلف- فى عام 525 قبل الميلاد، وهنا نسأل: لماذا ضللنا الطريق طوال 2500 عام وتركنا مناطق مختلفة من العالم تحمل شعلة الحضارة وتتقدم، بينما نحن نتخبط فى ظلمات التخلف والبربرية النفسية والواقعية التى انحدرنا إليها؟
التاريخ يخبرنا أن مصر كانت ومازالت أحد أهم أهداف القوى الاستعمارية عبر العصور لأسباب عديدة فى مقدمتها الموقع الجغرافى، كما يخبرنا أن الإنسان المصرى ظل على مر العصور مهموما بالتشبث بالحياة كوسيلة لمقاومة الاستعمار، وهى مهمة نبيلة وجليلة مكنته من البقاء والصمود فى الوقت الذى اندثرت فيه وبادت أمم وجماعات وشعوب عديدة، لكننا لابد أن نسأل أنفسنا مجددا: ماذا بعد الصمود والبقاء؟ ما هى الصورة التى أصبحنا عليها وما هى القيم الحاكمة لنا؟ وهل تمكننا هذه القيم من التقدم والترقى أم أنها قيم مخالفة لما أسسناه وأهديناه للبشرية؟ وما صلتنا بالفراعين الأوائل وإنجازاتهم الروحية والقيمية والحضارية؟
الواقع يكشف لنا بوضوح أننا فقدنا كل صلة لنا بالحضارة الفرعونية الأولى وقيمها وأسسها وثوابتها الروحية، وأننا نحتاج إلى مشروع قومى لغرس الضمائر فى النفوس واستعادة القيم الغائبة، وفى مقدمتها قيم العمل والإتقان والإبداع والاجتهاد، وأننا نحتاج إلى أن نعيد النظر فى مجموعة القيم الحاكمة لحياتنا، وجميعها قيم استهلاكية منحطة لا تؤسس حضارة ولا تحقق تنمية، وتؤدى إلى تدمير الإنسان والمجتمع، كما نحتاج أن نستعيد الوعى والروح المصريين فى الأزمات لنعيد بناء بلدنا من جديد، بعد أن تكالبت عليها قوى الشر من كل اتجاه، وبعد أن تساقطت الدول من حولها إلى مصير مجهول.
وكان المتوقع بعد ثورة 25 يناير، أن يلتفت المصريون إلى العمل والابتكار والإنتاج، لكن البعض قفزوا إلى سفينة الثورة وجنحوا بها إلى الفوضى، كما سعوا إلى إغراق المصريين فى الاستقطاب والحروب الأهلية والتطرف، فضاعت الثورة وتراجعنا إلى الوراء، وعندما حاولنا تصحيح المسار اكتشفنا أن البناء من الصفر بعد انهيار الدول يحتاج إلى جهود شاقة مضنية وميزانيات ضخمة وظروف مواتية، كما تعرضت بلادنا لحصار اقتصادى غير مسبوق وحملات إعلامية مدفوعة بمئات الملايين من الدولارات لتشويهها والضغط عليها، وكذا لمحاولات جرها لحروب إقليمية لا مصلحة لها فيها، وعندما فشلت تلك التحركات والمؤامرات بدأت إجراءات عقابية تعجيزية، وكلها أسباب إضافية يمكن أن تثير الهمة وتستفز الإرادات للمواجهة بالعمل والإنتاج.
العمل إذن هو الحل.. شعار لا غنى عنه الآن وغدًا، ومنهج لابد وأن يتبناه كل مصرى لنفسه وبلده وأمته.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة