قبل يومين من انتهاء المهلة الدستورية، سلمت وزارة المالية مشروع قانون الموازنة العامة للدولة للسنة المالية المقبلة 2018/2019 إلى مجلس النواب، لتصبح الكرة الآن فى ملعب البرلمان، فالجميع تتعلق عيونه بمؤشرات الموازنة وأهم أرقامها التى لم يتم الإفصاح عن تفاصيلها بعد.
والموازنة العامة شأن يهم الجميع ويؤثر عليهم، خاصة فى ظل قيام الحكومة باعتماد خطة إصلاح اقتصادى اعتبارا من نوفمبر عام 2016، ومن أبرز ملامحها رفع أسعار الطاقة والكهرباء وزيادة الحصيلة الضريبية من خلال تطبيق ضريبة القيمة المضافة، وتحرير أسعار الصرف، وهو ما أثر بصورة مباشرة على جميع المواطنين الذين تأثروا بتبعات هذه الخطة من زيادة الأسعار، وبالتالى فإن موازنة السنة المالية المقبلة سيكون لها طابع خاص فى ظل استكمال خطة الإصلاح الاقتصادى التى بلا شك سيكون لها المزيد من التأثيرات.
والموازنة العامة هى وثيقة تتضمن الإيرادات المتوقع للدولة تحصيلها خلال عام مالى والمصروفات المتوقع إنفاقها خلال نفس الفترة، ويبدأ العام المالى فى مصر أول يوليو وحتى نهاية شهر يونيو من العام التالى.
وتعانى الموازنة العامة فى مصر من عجز دائم ومزمن، سببه أن الموازنة توجه مصروفاتها لأوجه إنفاق شبه ثابتة، حيث ينفق أكثر من 80% من مصروفات الموازنة السنوية على سداد فوائد القروض والأجور والدعم والمنح والمزايا الاجتماعية، ولا يتبق سوى أقل من 20% فقط للإنفاق على الخدمات العامة كالتعليم والصحة والاستثمارات الحكومية فى البنية الأساسية وغيرها من مجالات الإنفاق وهو ما سعت الحكومة لتغييره من خلال خطة إصلاح اقتصادى شاملة تعتمد على إيجاد حيز مالى أوسع للإنفاق على الخدمات والحماية الاجتماعية عن طريق توفير جزء كبير من النفقات التى ظلت لوقت طويل ثابتة ولا تجرؤ أى حكومة على الاقتراب منها، خاصة دعم المواد البترول، وهو الإنفاق الذى يتم إعادة هيكلته بالكامل وتقليصه حتى يتم تحرير الأسعار تدريجيا.
ولأن الموازنة العامة هى مبالغ طائلة ويقارب حجم إنفاقها التريليون جنيه، فيجب أن تكون هناك كفاءة فى إنفاق هذه الأموال، وهذه الكفاءة تبدأ بأن يتم تحديد أولويات هذا الإنفاق بصورة تلبى احتياجات المواطنين فعليًا، وهذا هو التحدى الأكبر والأهم، ان توجه الأموال العامة المحدودة لأوجه إنفاق تحقق أقصى استفادة.
وعندما تقوم وزارة المالية بإعداد موازنة سنة مالية جديدة، أهم ما تضعه نصب أعينها هو تخفيض عجز الموازنة بمعنى ألا يكون الفرق بين ما تحتاجه للإنفاق وبين الموارد المالية التى تحصلها سواء من ضرائب أو إيرادات أخرى خلال السنة مبالغا فيه، حتى لا تضطر إلى الاستدانة بصورة كبيرة مما يؤثر على الدين العام ويحمل الأجيال الجديدة أعباء مالية تهدد سلامة الاستدامة المالية.
وتواجه الموازنة الحالية العديد من التحديات على مستويات مختلفة، ولكن ربما يكون أصعبها هى التحديات التى لا تتحكم فيها الحكومة وهى التحديات الخارجية المتمثلة فى الأسعار العالمية لكل ما تضطر الموازنة لدفع مقابله بالدولار مثل المواد البترولية، والقمح، وغيره من السلع التموينية.
وتعد أسعار المواد البترولية من أكثر التحديات الخارجية التى تؤثر بصورة كبيرة على الموازنة العامة، فمصر دولة مستوردة تحتاج استيراد حوالى مليون برميل بترول شهريا، وقد خصصت فى السنة المالية الحالية 2017/2018 مبلغ 110 مليار جنيه لدعم المواد البترولية، على اعتبار سعر برميل البترول فى الموازنة 55 دولارا، ولكن فى المثير من الأحيان تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن، فقد حافظت الدول المصدرة للبترول ضمن منظمة الأوبك على اتفاق خفض الإنتاج مما رفع السعر كثيرا حتى قارب الـ70 دولار للبرميل، وهو نفس التحدى التى سيواجه الموازنة الجديدة وموازنة كل عام لأننا دولة مستوردة.
أيضا سعر الدولار نفسه عامل مؤثر جدا فى الموازنة العامة، خاصة بعد التعويم وتحرير سعر الصرف فأصبح سعر الدولار مقابل الجنيه يحدد من خلال العرض والطلب ولا يتدخل البنك المركزى فى تحديد السعر، وبالتالى إذا حدث انتعاشة فى الإيرادات الدولارية المتمثلة فى إيرادات قناة السويس والسياحة والصادرات وتحويلات العاملين بالخارج، فهذا يعنى زيادة فى العرض وبالتالى يمكن أن ينخفض سعر الدولار مما يقلل الضغط على الموازنة التى توجه جزءا من إنفاقها لاستيراد السلع الأساسية من الخارج.
التحديات الخارجية بالتأكيد عامل مؤثر جدا على الموازنة العامة، ويتأثر بها المواطن بصورة مباشرة فى إطار خطة الإصلاح الاقتصادى، ومن المنتظر أن يتم استكمال الخطة بمزيد من تقليص الدعم للكهرباء والمواد البترولية فى السنة الجديدة التى تبدأ مطلع يوليو المقبل، وهو ما يشكل تحديات أمام الحكومة تتمثل فى برامج واسعة للحماية الاجتماعية لتقليل آثار ارتفاع الأسعار على محدودى الدخل، بل وأيضا الطبقة المتوسطة التى تأثرت كثيرا على مدار العام ونصف الماضيين دون أن يتم استهدافها بأى برامج لتقليل هذه التأثيرات.
تحسين خدمات التعليم والصحة، قد تكون بداية جيدة لاستهداف تحسين أحوال الطبقة المتوسطة التى تمثل السواد الأعظم من الشعب، والتى تنفق أموالا طائلة لتعليم أبنائها فى المدارس الخاصة بهدف الحصول على تعليم جيد، وتنفق الكثير أيضا فى الحصول على خدمات صحية مناسبة بالمستشفيات والعيادات الخاصة لسوء الخدمات المقدمة بالمستشفيات العامة، وهو أكبر وأهم تحدى تواجهه الموازنة، وهو زيادة حجم وفعالية الإنفاق على التعليم والصحة.
وعندما تم صياغة الدستور عام 2014 نص على تخصيص نسبة من الناتج القومى لا تقل عن 10% سنويا للإنفاق على التعليم والصحة والبحث العلمى، وكان هدفا نبيلا ممن وضعوا الدستور لضمان تحسين الإنفاق على هذه القطاعات الهامة باعتبارها مفتاح تنمية الإنسان، ولكن ما حدث بالفعل كان مخالفا تماما.
الحكومة حرصت على الالتزام بالنص الدستورى، ولكن بالأرقام فقط، بمعنى أن تعبر الأرقام الصماء عن الالتزام الدستورى فعلى سبيل المثال تم تضمين المصروفات المخصصة للإنفاق على الصرف الصحى ومستشفيات الجيش والشرطة والمستشفيات الجامعية إلى مخصصات الصحة، ولكن فى حقيقة الأمر ليس لوزارة الصحة أى ولاية على هذا الإنفاق، فالصرف الصحى مسئولية وزارة الإسكان، ومستشفيات الجامعة تحت تصرف وزارة التعليم العالى، وكذلك مستشفيات الجيش والشرطة تتبع جهاتها وزارتى الداخلية والدفاع، وأصبح الالتزام الدستورى مجرد حبر على ورق، وظلت وزارة الصحة تحصل على مبالغ ضئيلة لا تكفى لتحسين الخدمة، ويضطر المواطن الذى يلجأ لمستشفى عام لتلقى العلاج، إلى شراء القطن والشاش والعديد من المستلزمات لأن المستشفى لا تملك توفيرها لنقص الإمكانيات المادية.
ربما يغير بدء تطبيق قانون التامين الصحى الشامل هذه المشاكل الجذرية، ولكن هذا يحتاج سنوات طويلة، ولكن مجرد البدء هو بداية الطريق الصحيح.
والسؤال هنا يتوجه إلى الموازنة الجديدة: "هل سيتم اعتبار التعليم مشروع قومى تعبر الموازنة عن توجهاته بتخصيص مليارات حقيقية كافية لتحسين المنظومة حتى يتمكن أبناء الطبقة المتوسطة من إلحاق أبنائهم بمدارس حكومية للحصول على تعليم جيد بمصروفات يمكن تحملها؟ وهو ما ستجيب عنه الأرقام التى ينتظر الكشف عن تفاصيلها مع بدء المناقشات البرلمانية حول مشروع الموازنة الجديدة اعتبارا من منتصف أبريل الجارى".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة