مصر هى التى اخترعت فكرة الدولة قبل ثلاثة آلاف سنة، كما عرفت الدولة الحديثة منذ تولى محمد على الحكم عام 1805م، بينما عرفتها بعض دول الخليج فى سبعينيات القرن العشرين، فيما يحاول الفلسطينيون إقامة دولتهم، ولاشك أن هذه الاختلافات أسست تجارب مختلفة لمفهوم الدولة ومؤسساتها، وحدودها المادية والمعنوية، وشرعيتها وعلاقتها بالمجتمع.
ونظرًا لأهمية دور الدولة فى حفظ الأمن والاستقرار وقيادة جهود التنمية فإن الخطاب الرئاسى يركز على دعم وصيانة أركان الدولة وتحديثها، بحيث تتجنب عثرات وإشكاليات بناء الدولة فى كثير من الدول العربية الشقيقة، خاصة أن أحد أهم إشكاليات بناء الدول العربية أن أغلبها لم يكن نتاج تفاعلات مجتمعية محلية، وإنما كانت نتاجًا لتوازنات وتفاهمات القوى الاستعمارية، التى أحكمت سيطرتها الاقتصادية والسياسية على الدول الوليدة سواء أثناء الاحتلال أو بعد الاستقلال.
والإشكالية الثانية أن الدولة الوطنية الحديثة فى أغلب بلاد العرب أخذت من الحداثة بعض مظاهرها، فكانت طائفية أو قبلية من حيث الجوهر، وحداثية من حيث الشكل، لم يحترم فيها لا الدستور ولا القانون، ولم تعرف التعددية والديمقراطية وتداول السلطة، وإنما ظهرت فيها نظم استبدادية أو شمولية معادية للحداثة والاستنارة، بالرغم من ادعاء البعض وجود بعض نماذج «الاستبداد المستنير» فى منطقتنا، بمعنى أن النظام الاستبدادى انتصر لقيم المساواة وفصل الدين عن الدولة ومحاربة الإسلامويين، كما حدث فى تونس بورقيبة، والعراق صدام حسين، وسوريا الأسد.
وقناعتى أنه لا يمكن الجمع بين الاستبداد والاستنارة فى أى كيان سياسى، كما أن نظامى الأسد وصدام «البعثيين!!» قاما على أسس طائفية وجهوية، ولذلك كان انهيارهما كارثيًا وكاشفًا عن مدى ضعف مؤسسات الدولة وبنائها الطائفى، بينما تماسكت مؤسسات الدولة فى تونس ومصر نتيجة أسباب تاريخية ومجتمعية خاصة، علاوة على تدخل الجيش فى مص، وهو بحق أحد أهم مكونات وأدوات الدولة المصرية الحديثة.
الإشكالية الثالثة فى بناء الدولة الوطنية فى المجال العربى ترتبط برفض الإسلامويين والقوميين والماركسيين العرب لفكرة الدولة الوطنية، لذلك تدرجت التيارات الثلاثة بأحزابها المختلفة فى رفض أو عدم تقدير أهمية الدولة الوطنية، وكان مفهوم «الدولة القطرية» فى كتاباتهم بمثابة توصيف لكيان ضعيف ومصطنع وزائل انتظارًا لدولة الخلافة الإسلاموية، أو دولة الوحدة العربية أو الأممية الاشتراكية، والمفارقة أن المنتسبين للتيارات الأيديولوجية الثلاث استفادوا ماديًا ومعنويًا من الدولة الوطنية وشارك بعضهم فى العديد من وزارات تلك الدول القطرية، أى أنهم ساهموا فى بناء مؤسساتها وترسيخ وجودها المادى والرمزى!!
وثمة إشكاليات أخرى فى مسار تطور الدولة الوطنية فى المجال العربى، لا يتسع المجال للوقوف عندها، لأننى أسعى فى هذا المقال لمناقشة ضرورات دعم الدولة الوطنية والشروط اللازمة لضمان نجاح هذا الدعم، وأهمها:
أولاً: تعرضت الدولة الوطنية فى المجال العربى فى سنوات ما بعد الربيع العربى لتهديدات داخلية وخارجية هائلة، أسفرت عن تدهور أو انهيار أوضاع الدولة والمجتمع فى العراق وسوريا واليمن وليبيا والسودان والصومال، حيث اختفت بعض أهم مؤسسات الدولة وظهرت كيانات طائفية أو جهوية أو عرقية تعتمد على العنف والإرهاب، وتهدد الحدود الجغرافية المستقرة والمتعارف عليها بين الدول العربية.
وأعتقد أن الانتفاضات الشعبية التى تعرف بالربيع العربى لم تكن السبب الوحيد لانهيار الدولة فى عدد من الدول العربية، وإنما كانت كاشفة لمدى ضعف الدولة وطائفيتها فى سوريا واليمن وليبيا، تمامًا كما كان الاحتلال الأمريكى للعراق كاشفًا عن خواء مؤسسات الدولة فى العراق وطائفيتها، القصد لا يمكن تحميل الانتفاضات الشعبية أو الاحتلال الأمريكى كامل المسؤولية عن انهيار الدولة فى هذه المجتمعات، ولابد هنا من التذكير بتدهور أوضاع الدولة فى السودان، وانهيارها فى الصومال بدون انتفاضات أو ثورات ربيع عربى أو غزو أجنبى.
ثانيًا: فى إطار الدعوة لدعم دور الدولة الوطنية الحديثة لابد من الاعتراف بأنها لعبت أدوارًا إيجابية خلال القرن الماضى، فقد أمنت لأغلبية الشعوب العربية مستويات مُرضية من الاستقرار وحفظ الأمن، علاوة على تقديم الخدمات الأساسية بدرجات متفاوتة، بحسب الأوضاع الاقتصادية لكل بلد، ما أدى إلى زيادة سكنية كبيرة تفوق معدلات التنمية، أى أن ما قامت به الدولة العربية الحديثة ولد نقيضه الذى شكَل ضغوطًا متزايدة على قدرة الدولة على الوفاء بمتطلبات هذه الزيادة السكانية، خاصة احتياجات وطموح الشباب العربى الذى خرج فى الميادين متحديًا سلطة الدولة فى انتفاضات الربيع العربى، بينما ظل قطاع آخر من الشباب العربى يمارس الاحتجاج بشكل افتراضى عبر وسائل التواصل الاجتماعى التى تنتشر فى دول لم تعرف انتفاضات الربيع العربى.
ثالثًا: أن الدولة الوطنية الحديثة عندما تحقق المواطنة الحقة وكفالة الحريات ستكون قادرة على تفعيل الرابطة الوطنية كهوية وإطار إيديولوجى قادر على مواجهة أخطار الطائفية والإسلاموية والقبلية وجاذبيتها الإيديولوجية كهويات بديلة، وهنا لابد من التأكيد على أن نجاح الرابطة الوطنية لا يتعارض مع العروبة أو الهوية الإسلامية كهويات ثقافية أوسع وعابرة للحدود الوطنية.
وقناعتى أن العروبة ما تزال قادرة بالرغم من كل سلبيات التجارب القوموية العربية «الناصرية والبعث» على تأسيس شراكات اقتصادية وسياسية بين دول عربية فقيرة وأخرى غنية فى صيغ تكفل تحقيق المصالح المتبادلة وتشكيل خط دفاعى أيديولوجى ضد الإسلاموية المتطرفة والطائفية الضيقة، علاوة على التهديدات الخارجية، وفى ظنى أن العلاقات الخليجية المصرية بعد 30 يونيو تشكل نواة لمثل هذه الشراكات الناجحة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة