"أنا الذى قررت أن أكون كتابًا مفتوحًا أمامك".. هكذا يتذكر الكاتب الصحفى الكبير عبد الله السناوى، فى كتابه "أحاديث برقاش" الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل "بلا حواجز" كما جاء فى العنوان الفرعى للكتاب، الصادر عن دار الشروق للنشر، والذى يقع فى 340 صفحة من القطع الكبير.
يتذكر عبد الله السناوى، ويقول فى "وديعة هيكل": رأيته لمرات عديدة فى ظروف مختلفة، لكنه فى ذلك اليوم أزيحت كل الحواجز.. منذ 8 مايو 2000 توثقت علاقتنا وامتدت أحاديثنا بلا حواجز، وكان هو الذى قرر إزاحتها، وأن يكون الحوار المتصل على طبيعته وسجيته.
وفى شتاء 2003 قلت له: "أنا مستعد أن أعترف بأنك قد أعدت تأهيلى المهنى من جديد بفوائض خبرتك واتصال الحوار بيننا، رغم أننى فى موقع رئيس تحرير جريدة معارضة، صوتها مسموع وتأثيرها واسع". فقال: "كلانا يحتاج إلى الآخر، فأنت لديك فرصة أن تطل على تجربة لم تعاصرها وخبايا تاريخ لم تعشه، وأنا أطل عبرك على أجيال جديدة وطرق تفكير مختلفة عما عهده جيلى".
أحاديث برقاش
وحول عنوان الكتاب، يتذكر "السناوى" حينما سأله هيكل وفكرة الكتاب ماثلة: "لماذا برقاش؟"، فقال: "لأنها دون غيرها العنوان الأبرز عن السنوات التى حاورتك فيها ورأيت وعاينت".
حوارات عبد السناوى وهيكل فى برقاش
يقول "السناوى": حاورته أحيانًا فى "برقاش" على ترعة المنصورية، غالبًا فى مكتب الجيزة، قليلاً فى "الرواد" على الساحل الشمالى، لوقت قصير على مرسى يطل على نهر النيل بعد أن أحرقت "برقاش"، لمرة واحدة على طائرة خاصة ذهبت وعادت بنا فى نفس اليوم، وطوال الوقت باتصالات هاتفية لم تنقطع يومًا واحدًا فى مواقيت بعينها، وهو فى مصر أو خارجها.
حرق منزل هيكل فى برقاش وفض اعتصامى رابعة والنهضة
أما عن واقعة اقتحام منزل هيكل وحرقه فى برقاش، فيشير عبد السناوى إلى أنه فى صباح الأربعاء 14 أغسطس بدأ فض اعتصام رابعة العدوية والنهضة. وقرب الظهيرة اقتحمت مجموعات مسلحة الباب الرئيس لبيته، الذى لا يوجد عليه ما يشير إلى صاحبه، بعد أن أحرقت بزجاجات المولوتوف حديقته الأمامية.
أخذت تدمر كل كل ما فيه من أثاث ولوحات وذكريات، أحرقت حدائقه بأشجارها ونباتاتها، واستحال البيت أطلالاً تساقطت جدرانه بتفجيرات أنابيب غاز.
لم تكن هناك شرطة تردع؛ فمقراتها تعرضت لاعتداءات فى موجة عنف شملت دور عبادة وعدالة ومنشآت عامة ومبانى حكومية.
تعليق هيكل على حرق منزل فى برقاش
"أول ضربات الكوارث أن الكتلة الرئيسية من الكتب النادرة والوثائق التاريخية، التى لا سبيل لتعويضها راحت".. هكذا وصف هيكل حال منزله فى برقاش بعد حرقه.
يستعيد عبد الله السناوى تفاصيل الصورة، فيقول: فى اليوم التالى، ذهب إلى برقاش برفقة زوجته، وفى المساء قال لى: "كان عندك حق، فالطقس سىء"، وبعد ساعات انتابته أزمة فى الرئة استدعت نقله إلى أحد مستشفيات مدينة أكتوبر. لم يكن مرتاحًا للبقاء فى المستشفى، وطلب العودة إلى منزله فى الجيزة. غير أن مصاعب صحية جديدة استدعت نقله إلى مستشفى آخر فى حى الدقى. مرة ثانية طلب سرعة العودة للمنزل. مانع فى أى فكرة لعودة ثالثة إلى أى مستشفى. مانع بصورة مطلقة لم يكن ممكنًا المساجلة فيها. بدا متأهبًا نفسيًا للرحيل. أراد أن يموت على سريره، أن يواجه قدره بلا وسائل اصطناعية للحياة.
اللحظات الأخيرة فى حياة هيكل
لم يكن يريد أن تكون نهايته كـ"ونستون تشرشل"، الزعيم البريطانى الذى قاد بلاده إلى النصر فى الحرب العالمية الثانية، رجل يثير الشفقة على ما وصل إليه بأثر تقدم العمر وأمراضه.
بدا أقرب إلى تفكير صديقه "فرانسوا ميتران"، الرئيس الفرنسى الاشتراكى، الذى حكم بلاده أربعة عشر عامًا متصلة، رجل يقرر ألا يعاند الطبيعة عندما تعجز طاقته وتفتر همته.
بحسب رواية منقولة عن أمين عام رئاسة الجمهورية، على عهد "حسنى مبارك"، فإن "ميتران" أثناء زيارته السنوية الأخيرة لأسوان فى احتفالات رأس السنة استقل سيارة وذهب حيث يتصل الأفق بالصحراء، نظر أمامه طويلاً، وعندما عاد كان قد قرر الامتناع عن تناول أى أدوية وأن تكون النهاية الآن.
طقوس هيكل
فيما بين اليومين العاصفيين تغيرت طقوسه الاعتيادية، وهو رجل مغرم بالطقوس، لكل شىء مواقيته وتنظيمه الخاص وأصوله التى لا يغيرها بسهولة، وكل شىء يبدأ وينتهى فى "برقاش"، كأنه أودع روحه فى المكان فهو: "الوحيد الذى أشعر بأنه بيتى".. فـ"الجيزة بيت ومكتب كأنى على موعد عمل".
طوال رحلته الطويلة، إذا لم يكن هناك ما يلزمه بالسفر إلى الخرج، أو البقاء بجوار حركة الأحداث فى العاصمة، فإنه يذهب إلى بيته الريفى مساء كل أربعاء ويغادره صباح كل سبت.
كانت تلك فرصة للقراءة الحرة بعيدًا عن ضجيج العاصمة وصخب حوادثها، والحوار مع زواره لفترات أطول مما تتيحها الظروف الطبيعية فى مكتب الجيزة.
عادة فهو كان يحاور لساعة واحدة بالدقيقة والثانية قد تمتد لساعتين بمقتضى الظروف الملحة. فى "برقاش" كانت حواراته تمتد أحيانًا إلى خمس ساعات.
عندما أحرقت برقاش افتقد جلوسه فى مكان مفتوح، يحتسى قهوته ويطالع كتبًا وجرائد، أو يحاور أصدقاء ومعارف، غير أنه وجد حلولاً تعوض شيئًا مما افتقده إلى حين إصلاح ما خرب. دأب صباح كل جمعة أن يرتاد فندقًا على النيل، على مسافة قريبة من منزله، يجلس فى مرسى ومعه كتاب حديث أو اثنان وبعض جرائد اليوم وحارس شخصى يقف عن بعد ليطمئن على سلامته خشية استهداف حياته بعد ما جرى لـ"برقاش".
ثم اكتشف مكانًا آخر يواجه البناية التى يقطنها على نيل الجيزة للجلوس فى الشمس إذا كان الجو صحوًا ففى نادى تجديف الشرطة لم يكن يوجد فى ذلك الوقت من الصباح رواد يقتحمون عليه خلوته.
نظرة هيكل الأخيرة على برقاش
وبعد مضى الوقت من الإصلاحات فى "برقاش" بصورة استدعت عودة محدودة إليها، حيث إن المكان لم يتهيأ لاستقبال أى ضيوف ولا المبيت فيه، ورغم عصف الطبيعة فى الزيارة الأخيرة، فإن الأقدار لم تحرمه من نظرة وداع لأحب مواطن ذكرياته، الذى شرع فى بنائه منذ خمسينيات القرن الماضى.
هيكل على سرير المرض
وهو على سرير المرض حاول أن يستدعى أسلحته التقليدية فى مقاومته. معنى الحياة عنده أن يتابع حركة الأحداث وما خلفها، ويقرأ المستقبل وما قد يحدث فيه. فبادرنى بالسؤال: "قل لى ما الذى يحدث؟".
وعلى مقربة من سريره كتب غربية صدرت حديثًا كان قد بدأ فى قراءتها، وبعض الجرائد اليومية المصرية، وشاشة التليفزيون مفتوحة على محطة أخبار، وفى غرفة نومه تبدت شخصيته، فكل شىء بسيط وذوقه خاص واللون الأبيض سيد المكان، ومن حين لآخر تدخل قرينته السيدة "هدايت تيمور" تطمئن على تناوله الدواء.
لم يكن بوسعه، وهو على ذلك الحال، أن يتذكر ما كتبه عن لقاء أخير مع الزعيم الهندى التاريخى "جواهر لال نهرو": "كان على عادته، حتى وهو على فراش المرض، يريد أن يسمع ويريد أن يحاور".
استأذنته أن الوقت تأخر، وعليه أن يتخفف من بعض الأعباء واللقاءات وشواغل العمل اليومى دون أن يغيب عن الساحة وإبداء الرأى فيما يجرى عليها من تفاعلات وحوادث.
سيطرت على وجدانه فكرة أن وقت الرحيل قد حان، كأنه رسم خطًا فى فضاء الغرفة: "هنا النهاية". لم تكن قضيته المرض ولا شدته، فجسله طويله فى تحمل الألم وبعضه كـ"طعن الخناجر": "أنا لا أخفى سنى ولا مرضى".
وصية هيكل
كتب وصيته فى ثمانى صفحات وديعة مغلفة عند رفيقة حياته عام 1997، ربما يكون قد أدخل عليها تعديلات فيما بعد. بدأها برسالة إلى "حبيبتى هدايت"، والنص قطعة من الأدب الرفيع بعدما يكون قد عبر الجسر ما بين الحياة والموت.
وهو ينازع الروح أملى على نجله الأكبر الدكتور على هيكل أمورًا إضافية لم تتضمنها وصيته، بعضها ترتيبات لما بعده، وبعضها الآخر رسائل إنسانية لأصدقاء أقلقهم التدهور السريع فى حالته الصحية ولم يتسن له أن يلقى عليهم نظرة الوداع. كما أودع وصيته نعيا مقتضبًا وبسيطا كتبه بنفسه، بلا أى ادعاء ولا مبالغة، لينشر فى صفحات الوفيات بجريدة الأهرام عند رحليه.
نعى هيكل فى الأهرام
كان شبه مستحيل أن يمضى الأمر على هذا النحو الذى صممه، فهو مؤسس الأهرام المعاصر، والصحافة المصرية والعربية ودعته بملفات موسعة كما يليق بواحد من أهم الصحفيين فى القرن العشرين، لعله أبرزهم. لم يكن هناك معنى لعزاء مدفوع الأجر. لكنه تعامل مع نفسه كواحد من عامة الناس.
أوصى أن يوضع على قبره مسجل بصوت الشيخ محمد رفعت يتلو آيات من الذكر الحكيم، الذى يحفظه عن ظهر قلب منذ أن كان صبيًا صغيرًا، ويرى فى صوت الشيخ الجليل نفحة من السماء.
هيكل والشيخ محمد رفعت
قال: "لو أن صوتًا لا يتقن التلاوة أو به نشاز قرأ القرآن على قبره فإننى قد أموت فيها". التفت إلى المفارقة التى لم يكن يقصدها وعلت ابتسامة على وجهه بددت كآبة الحديث عن الموت.
ولم يتوقع أحد أن يوصى بالصلاة على جثمانه فى مسجد الحسين حتى فتحت وصيته. ففى اختيار المسجد نزعة صوفية رغم ثقافته المدنية. وفى اختيار الحى انحياز لعراقة التاريخ والمكان الذى ولد فيه.
قصة بناء هيكل لمقبرتين ولماذا اختار إحداهما
أما عن مقبرته فلها قصة – كما يرويها السناوى – ففى مطلع سبعينيات القرن الماضى، بعد رحيل جمال عبد الناصر، فى الثانية والخمسين من عمره، قرر مع صديقيه الحميمين سيد مرعى، وزير الزراعة الذى تولى رئاسة مجلس الشعب فيما بعد، والدكتور عزيز صدقى وزير الصناعة الذى صعد لرئاسة الحكومة تاليًا، أن يسارعوا بشراء مقابر عائلية فى حى مصر الجديدة، فربما يداهمهم الموت كما داهم جمال عبد الناصر مبكرًا.
بدواعى ارتباطه العاطفى بمزرعة "برقاش" بنى مقبرة أخرى على أطرافها تتداخل مع مقابر القرية أسماها "دار البقاء". ثم أعاد التفكير فى ذلك الاختيار خشية أن تكون مقبرته على أطراف المزرعة عبئًا على أحفاده عائدًا اختياره القديم، الذى أطلق عليه "دار العودة".
من مفارقات الحياة والموت أنه على مدى النظر من المكان، الذى دفن فيه، مقابر أخرى لجنود دول الكومنولوث، التى حاربت تحت العلم البريطانى فى الحرب العالمية الثانية، فقد كانت بدايته المهنية تغطية وقائع المواجهات العسكرية فى صحراء العلمين عام 1942 لـ"الإيجيبشان جازيت" أول صحيفة عمل بها.
عزاء هيكل
يشير عبد السناوى إلى أن وصيته تضمنت ألا يقام له عزاء فى دار مناسبات، فراجعه فيما استقر عليه رأيه لمرات عديدة على مدى سنوات. وقال له: "ليس من حقك يا أستاذ محمد أيا ما تكون أسبابك أن تصادر المشاعر الطبيعية عندما يحين الفراق، أو أن تحجب حق أسرتك فى التعزى". لم يعلق مرة واحدة، وترك ذلك – رغم نص الوصية – لتقدير أسرته والظروف التى تطرأ.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة