فى المقال السابق تناولت قضية ما أسميته بـ«الفساد الآمن»، وهو نوع من الفساد ينتشر فى المصالح الحكومية فى مصر فحسب، وأهم ممارساته هو ألا يمارس صاحبه أى شىء، وألا يفعل أى شىء، وخطورة هذا النوع من الفساد هو أنه يؤسس لأن يصبح الموت هو القاعدة والحياة هى الاستثناء، وفى الحقيقة لولا أن بمصر بعض من أصحاب الضمائر الحية، وبعض من فيض الإبداع لهلكت مصر من أبد بعيد، لكن ماذا نفعل لكى ينتقل العمل الحكومى من خانة «التطوع» إلى خانة «الإلزام»، وأن يصبح الإبداع فى المصالح الحكومية هو الأساس والتقليد هو الشذوذ؟
هنا أقترح أن تنشئ الدولة جهازًا معنيًا بإعادة تحديد قدرات العاملين بالدولة، وإعادة تأهيلهم، وإعادة توزيعهم، فعلى سبيل المثال توجد العديد من الوزارات المكتظة بالعاملين دون حاجة، كما يوجد العديد من الوزارات التى تعانى من نقص حاد فى العمالة، لكننا لا نستطيع أن ننقل هؤلاء إلى هذه الوزارة أو تلك لأننا مكبلين باللوائح والقوانين، كما أننا لا نعرف كيفية قياس القدرات الحقيقية للموظفين لأننا نفتقد للمعايير كما نفتقد للرقابة، كما نفتقد لآليات الثواب والعقاب، وهو أمر لابد أن ينتهى إن كنا نريد إصلاحًا.
المطلوب هنا آليات واضحة، وتشريعات مدعمة، والآلية التى أقترحها هنا هى إنشاء هذا الجهاز المعنى بمحاربة «الفاسد الآمن» الذى لا تحاسب عليه النيابة العامة ولا الرقابة الإدارية، لأنه ببساطة لا يخالف القانون ولا يفعل شيئًا خارجًا عنه فلا يرتشى الموظفون ولا يسرقون ولا ينهبون، لكنهم ببساطة «لا يعملون»، وقد قص على أحد المسؤولين الكبار حكاية ظننتها فى البداية خيالية من فرط سخريتها، لكنها للأسف كانت حقيقية، فقد قال لى إن أحد كبار رؤساء القطاعات الحكومية المشهورين بالكفاءة والإنجاز لم يستطع أن ينجز شيئًا فى مصلحة إلا حينما منح ثلاثة أرباع الموظفين إجازة مدفوعة الراتب، ليستطيع بقية الموظفين أن ينجزوا، وبالفعل أنجز الكثير وحافظ على مؤسسته من الانهيار.
خطة واحدة، خطة واعدة، قادرة على إنقاذ مصر من حالة الموات تلك، وفى اعتقادى أن أول خطوة لهذا الجهاز المراد إنشاؤه، هى أن يجرى اختبار مهام لموظفى وزارة واحدة، ويرى كيف يمكن إنجاز المهمة والوقت المفترض لها، وأن يلزم كل مصلحة حكومية بمعدلات إنجاز وفقًا للقوة البشرية والميزانيات المتاحة، أما أول خطوة يجب أن نسرع فى تنفيذها حتى قبل إنشاء هذا الجهاز فهى التخلص من آفة «البوستة» الحكومية التى تستهلك «أشهر» فى مسائل لا تستغرق أكثر من دقائق، وأعتقد أنه أصبح من العيب الآن ألا نعتمد على الرسائل الإلكترونية فى المصالح الحكومية فى عصر لا يعترف بالغياب عن الشبكة العنكبوتية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة