قال الداعية الحبيب بن على الجفرى ،أن الشرائع السماوية جاءت من لدن أبينا آدم إلى سيدنا محمِّد، صلى الله وسلَّم عليهما وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، موضحةً أمر الحقوق الخاصة والعامة، ومبيّنةً ما للفرد والمجتمع، وما على كل منهما،وقد عُرف الحديث عن حقوق الإنسان قديمًا في الفلسفة البشرية؛ فقد تحدث "بوذا" وفلاسفة الهند عن الأخطار المحدقة بالإنسان بسبب العنف والفقر والاستغلال، وصاغت الحضارة الهندية قانون "مانوا" قبل الميلاد بأكثر من ألف عام، وكان لفلاسفة الحضارة الصينية وقفاتٌ أمام حقوق الإنسان الأساسية في الحياة والسعادة، حتى نسب إلى "كونفوشيوس" قوله: "الإنسان لا يتعلم المدنية إلا عندما يُطعَم ويُكسى بصورة لائقة". واعتنى فلاسفة اليونان بحق الإنسان في الحياة وفي حرية التعبير والمساواة أمام السلطة وغيرها، وكان لدى العرب قبل الإسلام أعراف راسخة في الحقوق أثناء السلم والحرب.
وأضاف خلال كلمته بالجلسة الثالثة باليوم الثانى لمؤتمر الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم والمنعقد تحت عنوان "التجديد فى الفتوى بين النظرية والتطبيق" ،لقد شهدت مسيرة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وما تبعه من معاهدات وملحقات العديدَ من الإشكاليات والتحفظات، ولم تكن مقصورة على المسلمين، بل شهدت العديد من جولات النقاش والجدل من مختلف الخلفيات والثقافات وحتى الدول الكبرى،وترفض الولايات المتحدة الأمريكية الاعتراف بشرعية المحكمة الجنائية الدولية التي تحكم في القضايا المتعلقة بالجرائم ضد الانسانية.
وتابع:كان للدول الإسلامية صولات وجولات في التعامل مع نصوص المعاهدات المتعلقة بحقوق الإنسان تراوحت بين التحفظِ، لاعتبار النقاط المتحفظ عليها مخالفة للشريعة الإسلامية، وكونِها تتعارض مع الدساتير والقوانين الوطنية،كما طرأت على المنطقة تغيرات متوالية على مستوى الحكومات والمؤسسات الدينية والشعوب، فالحكومات المسلمة تتعرض لضغوطات متعددة منذ الاعتداء الأمريكي على أفغانستان والعراق تضاعفت وتيرتها في مرحلة الثورات سنة 2011، وما ترتب عليها من دمار واشتعال للصراع الإقليمي، مما جعل قدرتها على مقاومة الضغوط المتعلقة بالمعاهدات تفتقد قدرًا غير قليل من صلابتها،وكذلك فقدت الشعوب الكثير من حماستها تجاه القضايا الدينية بسبب استغلال الجماعات الإسلامية للشريعة المطهّرة في صراعاتها وتنافساتها على السلطة، وساورت الشكوك شرائح متسعة من الشباب تجاه الخطاب الديني لهول ما ظهر من الجرائم التي ارتكبتها التنظيمات المسلحة باسم الدين.
وأيضًا فقدت المؤسسات الدينية الأصيلة قدرًا غير قليل من تأثيرها ومرجعيتها على إثر التشكيك المتراكم الذي مارسته الجماعات الإسلامية في مصداقية هذه المؤسسات، ثم جاء دور متطرفي العلمانيين و"الحداثيين" ليكملوا ما بدأته الجماعات الإسلامية المتطرفة في حماسة غير مسبوقة، فتوالت حملاتهم الطاعنة في هذه المؤسسات العريقة وفي أهليتها وسلامة مناهجها، وكأنهم الخلف المعد لهذه الجماعات.
ويتطلّب هذا، مع ما سبق، نظرًا جادًّا في لب الإشكالية والعمل على جوهر التجديد.
واشار الي أنَّ التجديد حقيقة ثابتة ومطلب شرعي، ولم يتوقف على مدى القرون، غير أنه يتراوح بين القوة والضعف، والأخذ بنتاجه أو إهماله، وكم مضى في تاريخنا من مجددين أُغفِل نتاج تجديدهم، وتجوهلت ثمار جهودهم، إما جهلًا أو تعصًبا أو جمودًا أو حسدًا أو إهمالًا، أو غفلة عن أهمية ما قاموا به،وقد مرت علينا قرون من إهمال جهود المجددين في مختلف المجالات حتى غدا السمت العام للخطاب الشرعي جامدًا على موروثٍ أصولُه ثابتة وفروعُه ذاوية بعد أن كانت في السماء، فإنَّ الشجرة إذا أُغفلت ولم تُتَعَهَّد بالرعاية وقص الفروع الذاوية توقف ارتفاعها، وضعف نتاجها، وسارع إليها الهرم.
ويصاحب هذا العناء معترك داخلي مع المثقفين أو المتثاقفين الذين يشنون الهجمة تلو الهجمة على الموروث الشرعي على نحو بدأ فيه الهجوم بتحقير الموروث الفقهي الناتج عن اجتهادات فقهاء الأمة العظام، واتهامه بجرائم تتعلق بحقوق الإنسان المعاصرة، مع إغفال أنَّ هذه المعايير مستحدثة لم يكن لها وجود في أزمنتهم، وإغفال أنَّ مسائلهم الاجتهادية هي نتاج جهد بشري مبارك، أصاب فيه القائمون عليه وأخطؤوا، وكان في بعض اجتهاداتهم ما يناسب ثقافة عصرهم ولا يناسب متغيرات زماننا المعتبرة.
ثمّ تصاعدت الهجمات إلى مصادر التشريع طعنًا في صحيح السنة وفي قواعد الجرح والتعديل التي بها يُميَّز الصحيح من الضعيف، ليصل عن قريب إلى التشكيك الجزئي في آيات من القرآن هدمًا لأصل الدين،ونحن في تفاعلنا مع هذا الهدم المنظم مشغولون بالإجابات الجزئية والردود التفصيلية عن تناول النموذج المعرفي الذي تنطلق منه هذه الهجمات وتفنيده من خلال نموذجنا المعرفي،ولعل الإشكال الذي حال بين تناولنا لهذا وذاك عبر رؤية معرفية شاملة هو تأخرنا عن تجديد نموذجنا المعرفي واستخراج الرؤى الأوسع لمفهوم حقوق الإنسان انطلاقًا من مكونات هذا النموذج المعرفي.
ومما نتج عن ذلك تأخرنا عن مستوى الشراكة العالمية في صياغة مفاهيم حقوق الإنسان، واحتجابنا عن مستوى الاشتباك المعرفي المبني على مبدأ اعتبار التنوع محفّزًا على التعارف، فتحولنا الى التترس خلف الشريعة والخصوصية الثقافية، على الرغم من أنّ الخطاب الإلهي وجهنا إلى نشر ما أوحي إلينا عبر الحكمة في المحتوى والأسلوب، والموعظة الحسنة التي تلامس القلوب فتحرك الفطرة الكامنة، والجدل المعرفي بالتي هي أحسن: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} .
واضاف ان جوهر التجديد في إحياء مفهوم الشراكة القائمة على تجديد النموذج المعرفي المسلم، وفتح الباب أمام إسهامه في صياغة المنطلقات الأساسية لمفاهيم الحقوق وما يترتب عليها من معاهدات تتحول إلى قوانين،حيث أن أصل هذه الشراكة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} ،وهذه الشراكة المنبثقة عن الأخذ بمقتضى الحكمة الإلهية من وجود التنوع تقوم على مبدأ التعارف الذي يتجاوز التفاضل بحسب الجنس والعرق واللون والإمكانيات المعرفية والعسكرية والاقتصادية.
وهذه الشراكة تتجاوز ذلك إلى ما هو أعمق منه حيث تُجرِّدُ الإنسان من صلاحية الحكم على نظيره، فتحيل مبدأ التفاضل إلى الله، وتخلص النفس البشرية من رعونة المفاخرة والمكاثرة والاستقواء، وتخبر الإنسان بأن الأفضلية لا تقاس بالمقياس البشري، وليس من حق البشر الحكم بعضهم على بعض، فإنهم جميعًا مشمولون بعموم التكريم الإلهي: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (الإسراء: 70)، وأما الأكرم من بين المكرمين فهو أمرٌ عند الله وليس من شأن الإنسان أن يقرره أو يحكم به {إنَّ أكرَمَكم عندَ الله..} فهي عند الله لا تكون مبنية على جنس ولا عرق ولا لون بل أساسها التقوى {.. أتقاكم}، والنبي ﷺ قد أخبرنا بأن التقوى أمرٌ قلبي غيبي لا يقاس بظاهر قول أو ظاهر فعل عندما أشار إلى صدره الشريف وقال ﷺ: "التقوى هاهُنا" .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة