- ننشر صورة تثبت فبركة الموضوعات الصحفية بـ«الفوتوشوب» ظاهرة قديمة من سنة 1926 وبطلها زكريا أحمد واسم المطربة التى سعت لتفريقه عن زوجته.. وحكاية «مقلب» الفرنساوية الحسناء.. لقطة نادرة لزكريا أحمد خلال اشتراكه فى فيلم «أنشودة الفؤاد» الذى يعد أول فيلم ناطق باللغة العربية.. وكيف تعرض زكريا أحمد للبلطجة والسرقة فى تركيا
- هنا تجد اسم المطربة التى سعت لتفريق شيخ الملحنين عن زوجته بعد اختراع قصة حبه لها ونشرها فى جريدة المسرح
- ننشر صورة نادرة لزكريا أحمد أثناء اشتراكه فى بطولة أول فيلم أنشودة الفؤاد الذى يعد أول فيلم ناطق باللغة العربية
إن سمعت ألحانه فليس لك من الأمر شىء، ليس لك إلا أن تترك له نفسك، وأنت تعلم أنك بين أهلك وناسك.. ألحانه ستر للروح، وغطاء للهم، ودواء من السقم.. يتبختر، يتسلطن، يتحلى ويتجمل، يغوص بك إلى حيث يريد، فتصل إلى حيت تريد، صاحب الشخصية الأبرز فى تاريخنا الموسيقى الذى نحتفل اليوم بذكرى ميلاده الـ 122، ووفاته الـ 67.. شيخ الملحنين، وزعيم المنشدين.. الأب الروحى للسلطنة، والحاضنة الأم لكل ما هو أصلى وأصيل.. أبونا الذى فى المقام الشرقى، زكريا أحمد صقر مرزبان، كما تصفه الأوراق الرسمية، أم الشيخ زكريا أحمد، كما اعتاد الجميع على تسميته.
زكريا أحمد
كان ميلاده فى 6 يناير 1896، أما وفاته فكانت فى 14 فبراير 1961، فاخترنا أن نحتفل بكليهما معًا فى تارخ محايد، وأن نسعى جاهدين لعمل شىء يناسب هذه القامة العبقرية المصرية العالية، فهو صاحب النصيب الأكبر من وجداننا الطربى، الذى شدت أم كلثوم له «أنا فى انتظارك»، و«الآهات»، و«حبيبى يسعد أوقاته»، و«أهل الهوى»، و«الأولة فى الغرام»، و«عن العشاق سألونى»، و«قوللى ولا تخبيش»، و«غنى لى شوى»، و«الأمل لولاه عليا»، و«حلم»، و«جمال الدنيا»، و«الورد جميل»، و«هوه صحيح الهوى غلاب»، وهو من قبل ومن بعد ابن البلد الذى لا تشبع من صحبته.. المختصر المفيد لعبقرية زمانه ومكانه، الحى الذى لا يموت وإن تحالف الجميع على إزهاق روحه الطيبة، الأب الذى تشعر فى ابتسامته بصدر دافئ وعطر صياح.. الزاهد، الخالد، الفتوة، المتعافى، الشهم، الشجاع الكريم، الأبىّ، الرايق، المتناغم، الضحوك، الحكاء، القوى دون استقواء، والرقيق حتى الضعف، الأسطورة، صانع الأساطير، والفنان حتى الثمالة.
كان يكتب على باب غرفته مقولة «كونفوشيوس»: «لا يهمنى من يضع للناس شرائعهم ما دمت أصنع لهم أغنياتهم»، وهو المؤمن حافظ القرآن الذى يعتز بكونه شيخًا برغم خلعه «الجبة والقفطان»، فإن جاز لنا أن نضع حياة «شيخ الملحنين» بين قوسين، فسنجعل القوس الأول هو الموسيقى، والقوس الثانى هو الكرامة، التى من كثرة عشقه لها سمى كبرى بناته على اسمها، ليصبح اسمه مرادفًا لمعنى ابن البلد القوى، الشهم، الفنان، المتفانى، العبقرى، الأبىّ.
اليوم نحتفل بهذا العبقرى الفنان ابن الحضارة العربية الإسلامية، المصرى حتى النخاع، والمسلم حتى النخاع أيضًا، فقد كان «شيخ الملحنين» يعتز بالموسيقى الشرقية اعتزازًا كبيرًا، ويغار عليها كما يغار الابن على أمه أو أبيه، وهو فى ذلك لا ينفصل عن تعلقه الأزلى بالهوية العربية الإسلامية، كما لا ينفصل عن روح ابن البلد المحبة للفرح والنكتة، ففى كتابه «زكريا أحمد»، الصادر عن سلسلة أعلام العرب بعد وفاة زكريا أحمد فى 1961، يقول الصحفى الكبير صبرى أبوالمجد إن زكريا أحمد كان من أكثر الناس حبًا للفكاهة والضحك، كما يورد العديد من الحكايات التى تؤكد عمق اتصاله بالدين الإسلامى واعتزازه به، فذات يوم دخل على أحد أصدقائه فى مطعم «جروبى»، وحينما أتى الطعام، تناول زكريا بعضًا منه وقبل أن يضعه فى فمه قال «بسم الله الرحمن الرحيم»، وحينها قال له صديقه بنبرة استهزاء «إنت لسه فقى يا زكريا»، فما كان من زكريا إلا أن يقول له: «آه لسه فقى، هو يعنى علشان الواحد قلع الجبة والعمة ينسى أصله»، ثم فاجأ زكريا صديقه بأن جلس جلسة الفقهاء على كرسى «جروبى» وبدأ فى تلاوة القرآن وتجويده وسط اندهاش الناس من حوله، وهو ما دفع صديقه إلى الهروب بعد أن شعر بالخجل، بعد أن ضحك الجميع عليه.
وفى مرة أخرى يذكر صبرى أبوالمجد فى مذكرات «زكريا أحمد» أنه ذات يوم تلقى دعوة للاحتفال بتجديد المسجد الأقصى، وكان من ضمن برنامج الاحتفال أن يقرأ أحد المشايخ جزءًا من القرآن الكريم، وحينما رأى زكريا أحمد أن القارئ فى حالة غير طبيعية، وأن صوته لا يعجبه، وأن الآيات التى يقرؤها ليست مناسبة للمقام، اقترب منه هامسًا فى أذنيه بأن يختم القراءة سريعًا، وأن يخرج متعللًا بأنه مصاب بالإسهال ولا يعود إلى القراءة فى هذا اليوم، فامتثل القارئ للشيخ زكريا الذى جلس مكانه ليقرأ الآيات المناسبة للزمان والمكان، كقوله تعالى «إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر»، ويقول زكريا أحمد فى المذكرات «قرأت سورة الكهف كلها وأذنت لصلاة الجمعة، وكنت فعلًا فى حالة تجلٍّ، ولم أكن أحس بأن فى المسجد إناسًا، بل كنت كمن يخاطب الله ورسوله، وكان هذا أعظم وألذ نجاح أحرزته فى حياتى».
هذا مشهد من حياة الشيخ الضاحك الفنان الذى تحركه العاطفة وحدها، ولا يحركه سواها، وللأسف فإن هذا المشهد المؤثر لم تحفظه لنا الذاكرة البصرية، سواء عن طريق الصور الفوتوغرافية أو التسجيلات المصورة، مثله مثل آلاف المواقف التى مر بها ملحن الروائع، الذى امتد تأثيره إلى أجيال كثيرة من الملحنين، مثل رياض السنباطى، ومحمد الموجى، وبليغ حمدى، ولهذا نحتفل به اليوم بنشر العديد من الصور النادرة، التى يعود تاريخها إلى عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضى، حيث نتلمس فيها هذا الرحيق لجيل وضع أسس الموسيقى فى القرن العشرين، مخلصًا فى عمله، مدققًا فى اختياراته، مبدعًا فى ألحانه، متفردًا فى مدرسته، عميقًا فى شخصيته الموسيقية الشامخة.
مطربة «الكخة والدحة» التى أوقعت بين زكريا وزوجته
أولى القصص النادرة التى نكشف عنها اليوم هى قصة كادت أن تودى بحياة زكريا أحمد الزوجية، والتى كان يعدها الركيزة الأساسية لكيانه، ونقطة الاستقرار الحانية فى بحر حياته المضطرب الهائج، فقد كان الشيخ زكريا من أكثر الناس ارتباطًا بأسرته، والدليل على هذا كثرة الصور المنشورة له مع أفراد أسرته، بداية من الأم حتى الأطفال، وذات يوم انقطع عن العالم كله دون أن يقول لأحد شيئًا، ومما زاد قلق أصدقائه عليه أنه لم يكن يرد حتى على التليفونات المتكررة، وحينما زاره أصدقاؤه ليستطلعوا أسباب انقاطعه عنهم، وجدوه ملازمًا لابنته الصغيرة «تهانى»، التى كان يحبها حبًا جمًا، وقد مرضت مرضًا عارضًا، فحلف ألا يغادر البيت إلا بعد شفائها تمامًا.
ويعيد الكاتب الصحفى صبرى أبوالمجد، كاتب «مذكرات زكريا أحمد»، أسباب هذا التعلق بأبنائه وأسرته، إلى حرمانه من نعمة الطفولة والحنان الأبوى، فقد كان «شيخ الملحنين» يميل إلى الموسيقى والغناء، بينما أبوه كان يريد إبعاده عنهما ليكون شيخًا فقيهًا، أو موظفًا وجيهًا، وقد أفاض «أبوالمجد» فى سرد معاناة الطفل «زكريا» مع أبيه، الذى أدى فى وقت من الأوقات إلى تشرد الطفل زكريا أحمد فى الشوارع بعد هربه من البيت، وحينما تزوج زكريا أحمد من «هانم»، أخت زوجة أستاذه ومعلمه الشيخ درويش الحريرى، أحبها كثيرًا، وأخلص فى حبها، وشعر فيها بالحنان المفتقد، وأفاض من شخصيته المحبة للحياة والبشر على أسرته الصغيرة، فكانت صورهم المتناثرة تؤكد أنهم يعيشون حياة مملوءة بالحب والبهجة فى آن، ولذلك كانت تلك العاصفة من أكثر الأزمات قسوة على حياة زكريا أحمد.
وقصة هذه الفتنة التى سردها صبرى أبوالمجد بالكثير من التفاصيل فى كتابه المرجعى عن زكريا أحمد، تقول إن إحدى المطربات فى عشرينيات القرن الماضى أغرمت بزكريا أحمد غرامًا شديدًا، ولهذا سربت إلى الناس شائعة تقول إنهما عشيقان، ولم تكتف بهذا، بل جعلت خادمتها تذهب كل يوم إلى السيدة «هانم»، زوجة زكريا أحمد، لتقص عليها يوميات الغرام المزعوم، لكن زوجته بحنكة بنت البلد الأصيلة، وصبر «أم العيال»، وإلهام من الله لم تنفعل كما خططت له المطربة الشهيرة فى الوقت ذاته، بل على العكس، يومًا بعد يوم كسبت ثقة الخادمة وأصبحتا صديقتين، وفى سرده للقصة يذكر «أبوالمجد» أن صحيفة «المسرح» التى كانت من أوسع الصحف انتشارًا فى وقتها، نظرًا لمناصبتها «زكريا» العداء أججت الشائعة، وذكرتها فى خبر مفصل، مدعية أنها تزف للجمهور خبرًا سارًا، وأنها تأمل أن تكتمل قصة حب «زكريا» بالمطربة المذكورة، ليتضافر الفن مع الحب، وينتجا الكثير من الأغنيات، وحينما تضايق «زكريا» من هذه الشائعة وظل ينفى وجودها، غضبت الجريدة، وكتبت تقريرًا بعنوان «مذابح الغرام»، دافعت فيه عن نفسها قائلة إنه لا يهمها أن تكون هناك علاقة أو لا تكون، لكن يهمها أن يتأكد القارئ أنها لا تكذب ولا تدعى، مؤكدة أنها لا تنشر خبرًا إلا بعد التأكد من صحته، ولكى يقتنع القارئ بوجهة نظر الجريدة جمعت ما سمته «أدلة الإثبات،» وهى عبارة عن ثلاث صور تجسد أطراف العلاقة.. الأولى صورة طولية للمطربة الشهيرة، تظهر قوامها المتلئ الذى كان من سمات السيدات الجميلات لهذا العصر، أما الثانية فتمثل الشيخ «زكريا» يجوار المطربة الشهيرة، معلقة «ولا أحدثك عن ملامح الوجه ولا خلجات النفس البادية على المشاعر»، أما الصورة الثالثة بحسب تعليق الجريدة، فهى «رسم قلب فى أعلاه الشيخ زكريا أحمد وفى وسطه السيدة...، وهى تفكر فيه طويلًا، فهل تريد إثباتًا أكثر من هذا؟»
اسم المطربة المخفى.. اليوم نكشفه
يحكى صبرى أبوالمجد هذه الحكاية، مؤكدًا أنها أثارت دنيا الفن فى أواخر عام 1926، وأنها بالفعل أثرت على سمعة الشيخ «زكريا»، وكادت أن تعصف بحياته الزوجية، لكنه يخفى اسم المطربة وصورتها عن كتابه المرجعى الأكثر مصداقية عن حياة زكريا أحمد، ولابد من أن أى قارئ لسيرة الشيخ «زكريا» قد سأل نفسه: تُرى من تكون هذه السيدة التى لن تكتمل الحكاية دون معرفتها؟، وهنا نكشف للمرة الأولى منذ 92 عامًا اسم هذه السيدة، التى استطعنا أن نعرف هويتها عن طريق الاطلاع على عدد نادر من مجلة «المسرح»، وفيه الاسم والصور السابقة الإشارة إليها، أما المطربة فهى «الست رتيبة أحمد»، الملقبة بـ«مطربة الكخة والدحة»، نظرًا لشهرة أغنيتها «أنا حاسة وأنا لسه معرفش الكخة من الدحة»، كما لقبت بـ «كروان مصر»، وهى أخت الفنانة الشهيرة فتحية أحمد، التى كانت من أكبر منافسى أم كلثوم وأشدهم، قبل أن تتسيد «كوكب الشرق» عرش الغناء العربى، وقد اشتهرت رتيبة أحمد بالأغنيات الخفيفة التى تصل إلى حد المجون، ومن أغنياتها «يا حلاوة دى الصباحية»، و«قولولى بالذمه يا فندى»، و«يا سمباتيك خالص يا مهندم»، و«أنا لسه نونو فى الحب بونو»، التى تقول فيها «الحب دح دح والهجر كخ كخ»، لكن سرعان ما انتهت القصة وعادت المياه إلى مجاريها، بعد اكتشاف الحقيقة، فكيف أزيحت هذه الغمة؟
الفضل كله ينسب إلى حكمة وكياسة السيدة «هانم»، زوجة شيخ الملحنين وإمامهم زكريا أحمد، فقد استمالت قلب خادمة رتيبة أحمد، وضمتها إلى صفها بحنانها وكرمها، فاعترفت الخادمة للزوجة الصابرة المثابرة بأن سيدتها هى التى تأمرها بالقيام بهذا الدور رغمًا عنها، وأنها كذبت عليها وافترت على زوجها خلاف الحقيقة، أما مسألة صور الجريدة فهى بحق ما يسترعى الدهشة، فيذكر صبرى أبوالمجد فى كتابه أن أحدهم جاء واعترف للسيدة «هانم»، زوجة زكريا أحمد، بأن الصورة كانت مفبركة، تم تجميعها من صور مختلفة لتظهر فى هذا الوضع.
رتيبة أحمد بطلة واقعة مذابح الغرام مع زكريا أحمد في ضورة مفبركة
ويجب هنا أن تعرف أن ظاهرة تجميع الصور بهذا الشكل كانت معروفة منذ زمن يسبق زمن هذه الواقعة، ولسيد درويش صور فى مكتبة الإسكندرية بهذا الشكل، وقد كان الشيخ «سيد» يجمع هذه الصور بنفسه لإضفاء الحيوية والكوميدية على صوره الشخصية، أما أن يتم استخدام هذه التقنية التى تشبه الآن تقنية فبركة الصور ببرنامج «الفوتوشوب» التى تحدث الآن، فلم أسمع عنها قبل هذا التاريخ.
الأسطورة محمد يعقوب يظهر فى صورة نادرة
رابع الصور النادرة التى نعرضها اليوم التقطت فى يوم حفل تأبين الموسيقار الرائد داود حسنى، فى 7 يوليو 1938، وقد مات الرائد الموسيقى الكبير داود حسنى فى أواخر عام 1937، وقد جمعت هذه الصورة بين باقة من ألمع نجوم الطرب والموسيقى فى القرن العشرين، فنرى فيها كلًا من محمد القصبجى، وفتحية أحمد، وزكريا أحمد، بالإضافة إلى سليم زيتون، وطفلين، أما الطفلان فهما محمد إحسان الذى يقف بجوار القصبجى، ومحمد يعقوب الذى يقف بجوار زكريا أحمد، وهما من أبناء شيخ الملحنين زكريا أحمد، وقد كان رحمه الله يسمى أبناءه الذكور كلهم بأسماء مركبة تبدأ بمحمد، وللوهلة الأولى فإن الدهشة هى التى تتملك الواحد حينما يرى هذه الصورة، لا للجمع الفنى المعروف، الذى يتمثل فى القصبجى وزكريا وفتحية أحمد، لكن لوجود الطفل محمد يعقوب فى الصورة، وهو الشخصية التى تكاد تقترب من درجة الأساطير، لربط المخيلة الشعبية الفنية بينه وبين أحد أهم وأروع أغنيات أم كلثوم «الأولة فى الغرام»، فما تلك الحكاية؟
زكريا أحمد في شبابه
القصة باختصار معروفة لدى جميع محبى السيدة أم كلثوم، وعشاق الشيخ «زكريا»، ومريدى بيرم التونسى، وهم ثلاثى إبداع هذه الأغنية، غناء وتلحينًا وتأليفًا، وتقول الحكاية الخيالية الأسطورية الدرامية المبكية التى يتداولها الكثير من الجرائد المصرية العربية، ويتداولها الكثير من مقتفى أثر السيدة أم كلثوم و«سميعتها»، إن أم كلثوم ذهبت لتعزية الشيخ «زكريا» فى وفاة ابنه محمد يعقوب، لكنه كان مصدومًا ومذهولًا، لدرجة أنه لم يشعر بوجودها.. لا يتحدث، ولا يتحرك، ولم تنزل من عينيه دمعة واحدة، قلقت أم كلثوم على حاله، فاتصلت برفيق عمره الشاعر بيرم التونسى، وكان حينها فى الإسكندرية لا يعلم بما حدث، وطلبت منه الحضور، ومحاولة إخراجه من حزنه، وحين وصل بيرم لمنزل الشيخ زكريا جلس بقربه يحدثه ويواسيه، غير أن الرجل كان فى حالة صدمة، فلم يشعر به أيضًا، استمر فى الحديث وأخبره أنه كتب قصيدة جديدة يود معرفة رأيه فيها، لم يرد عليه الشيخ «زكريا»، ولكن «بيرم» بدأ فى سردها حتى وصل للمقطع الذى يقول:
حطيت على القلب إيدى وأنا بودع وحـيدى
وأقول يا عين اسعـفينى وبالدمع جودى
من يوم ما راح حبيبى وأنا بداوى جروحى
أتارى فى يوم وداعه ودعـت قلبى وروحى
وهنا انفجر الشيخ «زكريا» فى البكاء، وجادت عيناه بالدموع، وبكى معه صديقه بيرم التونسى، وظلا عاكفين على تلك القصيدة لمدة يومين يبكيان ويبدعان، حتى خرجت الأغنية بهذا الشكل المهيب المؤثر، وحينما سمعت أم كلثوم هذا اللحن تأثرت به هى الأخرى، وهذا هو سبب إبداعها الفارق فى هذه الأغنية.
صورة لزكريا أحمد وسط الاذاعة اللنانية عام 1946
هل تنتهى أسطورة «الأولة فى الغرام» بعد نشر هذه الصورة؟
إلى هنا تنتهى القصة التى تشبه الأسطورة المحيطة بواحدة من أروع أغنيات أم كلثوم، وفى الحقيقة فإن من يسمع هذه الأغنية يشعر بأن وراءها قصة مؤلمة ومشاعر حية، وهو ما جعل هذه القصة تحظى بالكثير من القبول فى الوسط الموسيقى، وفى الحقيقة حينما قرأت تلك القصة تأثرت بها كثيرًا، لكن بعد فترة بدأت التساؤلات حول حقيقة هذه القصة تظهر على السطح، وأول هذه التساؤلات، هو: كيف لم يعرف بيرم التونسى، صديق زكريا أحمد الأقرب، بوفاة ابن صديقه حتى تعلمه أم كلثوم؟، والتساؤل الثانى هو: كيف يترك زكريا أحمد من أتوا لعزائه فى ابنه الوحيد ويظل لمدة يومين كاملين هو و«بيرم» فحسب ليلحن الأغنية؟، وهنا بدأت فى البحث عن مصدر القصة فى المراجع الموثوق فى صحتها، أو فى الشهادات المعاصرة لها، وهنا كانت المفاجأة.
فى كتاب «زكريا أحمد» الصادر ضمن موسوعة أعلام الموسيقى العربية عن «دار الشروق»، بالتعاون مكتبة الإسكندرية، تذكر الدكتورة إيزيس فتح الله أن أم كلثوم تغنت بتلك الأغنية فى حفلة 4 مايو 1944، وهذا هو كل ما يتوافر فى هذه الموسوعة المهمة عن تلك الأغنية وملابسات غنائها، لكن بالرجوع إلى مذكرات زكريا أحمد التى كتبها الصحفى الكبير الراحل صبرى أبوالمجد، يقول إن «زكريا» فى العام الذى توفى فيه كتب فى العديد من الصفحات المستقبلية أحداثًا حدثت فى أعوام سابقة، وكأنه كان يعلم أنه سيموت فى هذا العام، فأراد ألا يترك اليوميات فارغة حتى نهاية العام، لكن المفاجأة تكمن فيما كتبه لاحقًا، إذ يقول إنه فى المكان المخصص ليوم 2 يونيو من أجندة عام 1961 «العام الذى توفى زكريا فيه»، يقول: «فى مثل هذا اليوم من عام 1959 مات حسين عسكر ونادية فهمى، وبمثل هذه الطريقة كتب فى مكان أول يوليو: فى مثل هذا اليوم من عام 1959 حضرت أم كلثوم للعزاء فى يعقوب».
هكذا يلقى زكريا أحمد المفاجأة دون مواربة، مؤكدًا أن ابنه المرحوم «يعقوب» مات فى 1959، أى بعد تاريخ تلحين الأغنية بخمسة عشر عامًا على الأقل، لكنى وبرغم وضوح صياغة المعلومة التى لا تحتاج إلى تأكيد تشككت فيها، نظرًا لما تتمتع به قصة تلحين الأغنية من شهرة عريضة لدى المهتمين والمتخصصين، فصنعت فرضية وسرت وراءها، لكى أقلب الحقيقة على جميع أوجهها الممكنة، وتلك الفرضية تقول إن «زكريا» لم يقصد بالإشارة هنا إلى العزاء الذى يقام بعد الوفاة مباشرة، وإنما ربما قد قصد الذكرى السنوية لابنه، لكنى سرعان ما تراجعت عن هذه الفرضية، حينما تذكرت أن تلك الواقعة حدثت فى أثناء فترة القطيعة بين أم كلثوم وزكريا أحمد، حيث كانت القضايا بينهما مشتعلة، ومن الصعب أن تبادر أم كلثوم المعروفة بقوة شخصيتها بالحضور إلى زكريا أحمد من أجل ذكرى سنوية فحسب وليست وفاة، فلم تنتهِ قضيتهما المشهورة إلا فى أوائل عام 1960، وبالتحديد فى 25 يناير من العام ذاته، ولهذا فإن ترجيح أن التاريخ المذكور هو تاريخ الوفاة، وليس تاريخ الذكرى السنوية، هو الأكثر رجاحانًا، بل ربما يكون حضور أم كلثوم لأداء واجب العزاء فى منتصف عام 1959 سببًا من أسباب موافقة زكريا أحمد على الصلح مع أم كلثوم، ليقول فى المحكمة إن أم كلثوم سيدة مطربات الشرق، وأنه يخدم الفن بصوتها.
كل يوم «قدرة فول وأربع بطيخات» من أجل «الأولة فى الغرام»
بالإضافة إلى ما سبق، يذكر صبرى أبوالمجد فى «مذكرات زكريا أحمد»، ملابسات تلحين أغنية «الأولة فى الغرام»، التى يذكرها فى كتابه باسم «الأولة آه»، لكننى بعد مراجعة موسوعة أعلام الموسيقى العربية فى جزء زكريا أحمد، وجدت أن أم كلثوم لم تغنِ أغنية بهذا الاسم من تلحين زكريا أحمد وتأليف بيرم التونسى، والأغنية الوحيدة التى تتشابه مع هذا العنوان هى أغنية «الآهات»، لكن طريقة كتابتها تختلف عن طريقة كتابة أغنية تبدأ بـ«الأولة آه»، وهذا هو القالب الذى اشتهر به بيرم التونسى، فى حين تتطابق هذه الطريقة تمامًا مع «الأولة فى الغرام»، التى يورد «أبوالمجد» حكاية تلحينها، فيقول ص 331، إن زكريا أراد أن يبدع فى تلك الأغنية، لأن أم كلثوم كانت مترددة فى غنائها، ورغبة منه فى إخراجها على الوجه الأمثل، ذهب هو و«بيرم» وصديق لهما يدعى أحمد كنفانى إلى منزل صديق آخر هو عبدالسلام شهاب، وظلوا معًا أسبوعًا كاملًا، وفى كل ليلة كانوا يسهرون ليلحنوا ويعزفوا ويعدلوا، حتى يأتى الصباح، فيذهبون إلى بائع فول مدمس، فيشترون منه قدرة فول وزيتًا و«قفص خبز»، ثم يجلسون على الرصيف ليأكلوا كالمجانين، مضيفًا على لسان أحمد كنفانى: «وبعد أن نقضى على كل ما فى المحل، نذهب إلى فكهانى قريب ونشترى منه بطيخًا، لكل واحد منا بطيخة، وعلى الرصيف نقضى على البطيخ كله ومن ينتهى من الأكل أولًا يساعد من تأخر فى الأكل، وهكذا حتى تشرق الشمس، فنعود إلى منزل أى واحد منا لننام حتى المساء، ونبدأ فى البحث عن مكان جديد لسهرتنا الجديدة، وهكذا طوال سبعة أيام إلى أن انتهينا من الأغنية».
صورة نادرة تجمع بين محمد القصبجى وإحسان زكريا وسليم زيتون وفتحية أحمد ويقوب زكريا وزكريا أحمد عام 1938
وأعتقد أن هذه الأجواء لا تدل بأى حال من الأحوال على حزن أو فقد، أو فجيعة بفقد أى قريب، فما بالك بفقد الابن؟، لكننى برغم هذه الأدلة الساطعة لا أستطيع أن أنزع ثوب الأسطورة عن تلك القصة ببساطة، وأترك الباب مفتوحًا لأى تأكيد أو نفى، سواء من المؤرخين الفنيين أو عائلة شيخ الملحنين التى تملك القول الفصل فى هذه القضية.
وقبل أن نترك ظلال هذه الصورة التى أثارت تلك القضية المنسية، يجب هنا الإشارة إلى أمرين فى غاية الأهمية، الأمر الأول هو حرص شيخ الملحنين زكريا أحمد على اصطحاب أبنائه للمناسبات الفنية، والاحتفاليات التاريخية، ومدى ارتباطه بعائلته التى ظهرت فى أكثر من صورة منشورة له، أما الأمر الثانى فهو مناسبة التقاط هذه الصورة فى أثناء حفل تأبين الموسيقى الرائد داود حسنى، صاحب الباع الطويل فى الموسيقى المصرية، وقد حفظت مذكرات «شيخ الملحنين» مقدار ما كان يكنه لـ«حسنى» من محبة وتقدير، ونرى هذا فى خطاب أرسله إليه إبراهيم داود حسنى بمناسبة اشتراك زكريا أحمد فى حفل إحياء ذكرى «حسنى» فى 11 فبراير 1956، أى بعد التقاط هذه الصورة بحوالى 18 عامًا، حيث قال له إبراهيم حسنى فى الخطاب: «أرى من نفسى العجز عن شكرك أيها الفنان المخلص، فلا يمر يوم من أيام الحياة إلا وتثبت أصالتك كفنان، وعبقريتك كموسيقار، وعواطفك وشعورك قبل كل شىء كإنسان فوق كل اعتبار، وتكريمك لزملائك الفنانين فى حياتهم ومماتهم»، ثم يمضى إبراهيم حسنى ليشرح ما قاله زكريا أحمد عن والده، لكن يهمنا هنا هى تلك الإشارة التى أشار إليها حسنى الابن عن وفاء زكريا أحمد لأصدقائه، ويكفى هنا أن نذكر أنه قبل وفاة زكريا أحمد بيوم واحد كان رحمه الله مشاركًا فى برنامج تليفزيونى ليعدد مآثر صديقه الراحل بيرم التونسى فى ذكرى الأربعين، كما يكفى أن نشير إلى أن «أبوالمجد» يذكر أن أصعب أيام مرت على زكريا أحمد هى تلك الأيام التى اعتزل فيها الرائد الموسيقى كامل الخلعى العمل الموسيقى، وعمل ماسح أحذية، ذاكرًا أنه لم يهدأ حتى أعاد «الخلعى» إلى الموسيقى مرة أخرى، و«ترك صندوق الورنيش، وعاد إلى السيكا والجركا»
زكريا أحمد شريرًا يضرب الناس بالنار
نأتى إلى الصورة النادرة الخامسة التى ننشرها اليوم، وهذه الصورة لا أبالغ إذا قلت إنها لا تجسد حقبة تارخية مهمة من تاريخ مصر كلها، وليس من تاريخ زكريا أحمد فحسب، فتلك الصورة التقطت فى أثناء تصوير فيلم «أنشودة الفؤاد»، وهذا الفيلم الذى لم يره المصريون منذ يوم عرضه فى السينما فى ثلاثينيات القرن الماضى، يعد أول فيلم ناطق باللغة العربية، وقد بدأ تصويره قبل فيلم «أولاد الذوات»، الذى يحسبه بعض المؤرخين أول فيلم ناطق بالعربية، لكن غالبية المؤرخين يتفقون على أن السبق كان لـ«أنشودة الفؤاد»، وبحسب موسوعة أعلام الموسيقى العربية الصادرة عن «دار الشروق»، ص 822، فإن الفيلم من إخراج المخرج الإيطالى مايرو فولبى، ومن قصة «ن. لازار»، وتأليف خليل مطران، وشاركه زكى مبارك فى كتابة قصيدة «يقولون ليلى»، ومن إنتاج وتوزيع «نحاس بهنا فيلم»، أما ألحان الأغانى فكانت من نصيب زكريا أحمد، والبطولة كانت لجورج أبيض، ونادرة وعبدالرحمن رشدى، ومحمد عبدالله، وغيرهم، وقد شارك فى بطولة الفيلم الموسيقار الراحل زكريا أحمد كأول وآخر فيلم يقوم بتمثيله، وفى هذا حكاية أخرى.
صورة نادرة لزكريا أحمد في مشهد من فيلم أنشودة تافؤاد أول فيلم ناطق بالعربية
يقول زكريا فى مذكراته: «كانت الاستعدادات قد تمت لإعداد فيلم مصرى رائع، يشترك فيه جورج أبيض وعبدالرحمن رشدى، الذى كان قد خلع روب المحاماة ليشتغل ممثلًا، وكان شاعر القطرين خليل مطران قد وضع للفيلم الحوار والقصائد، وكان كل شىء قد تم لسفر الممثلين والممثلات إلى باريس من أجل تسجيل أغانى الفيلم، وجاء منتج الفيلم أو أحد أقربائه ليتفاوض معى حول أجر التلحين، قال المنتج: الموضوع بسيط جدا، تلات أغنيات صغيرة، رحبت بالعرض وسألنى المنتج: تحب تاخد كام؟، فقلت: اللى تقول عليه، قال: أربعمائة كفاية عليك؟، قلت: كفاية أوى والحمد لله على كده، قال المنتج: أنا قصدى أربعمائة قرض صاغ مش أربعمائة جنيه زى ما افتكرت».
هنا هجم زكريا أحمد على المنتج، لأنه أحس أنه أتى ليهينه وليس ليتفق معه، وكانت معركة شهدها مخرج الفيلم فأعجب بزكريا أحمد فى أثناء معركته مع المنتج، ليس كملحن أو موسيقار، وإنما كممثل يتقن أدوار الشر، ويحسن استخراج الغضب من داخله، وقد كان المخرج وقتها يبحث عمن يقول له بدور الشرير، بعد أن اعتذر استيفان روستى عن السفر إلى فرنسا، وقبل «زكريا» العرض رغبة منه فى خوض التجربة الجديدة، واشتياقًا منه إلى السفر إلى فرنسا، ليقوم بثلاثة أدوار مختلفة فى فيلم واحد، وعن هذا الفيلم يقول زكريا أحمد فى مقال له نشرته مجلة «الكواكب» الشهرية، عدد فبراير 1949، بعنوان «فشلت كملحن ونجحت كممثل»، وقد جاء فى المقال أن طاقم العمل سافر إلى باريس لتصوير المناظر الداخلية باستوديو «جومون»، ولما انتهوا من التصوير بدأوا فى تسجيل الأغانى، ويقول «زكريا»: كان علينا أن نسجل أغنيتين، هما «آه يا بحر النيل يا غالى»، وأغنية «يقولون ليلى بالعراق مريضة»، ويعرض لبعض المفارقات التى مروا بها، ثم يمضى ليتذكر بعض مفارقات يوم عرض الفيلم فى سينما «ديانا» بالقاهرة، حيث قال: «وجلست أشاهد زكريا محمد أحمد الممثل، وأستمع إلى زكريا أحمد الملحن، وأعترف أننى أحسست بمرارة الفشل كملحن، لكننى رأيت نفسى كممثل لدور الشرير، فدهشت لنجاحى فى تمثيله، وقد خرجت مشيعًا بسخط الجمهور، وكانت الشتائم التى صبها على رأسى شهادة ناطقة بنجاحى فى تمثيل هذا الدور».
وتجسد الصورة النادرة التى ننشرها اليوم لمشهد يضرب فيه زكريا النار على أحدهم، من خلال توثيق حكاية الفيلم، نعرف أن هذا المشهد يعتبر من المشاهد الرئيسية فى الفيلم، حيث يقوم زكريا أحمد، الذى قام بدور الشرير، بإصابة أحد أبطال الفيلم، ويورط آخر فى الجريمة، وهو ما ينتج عنه أن يتم تفريق شمل أسرة طوال عشرات السنوات، حتى يعترف فى النهاية بجريمته، ويجمع شمل الأسرة مرة أخرى، ومن خلال تلك الصورة نكتشف ما يتمتع به زكريا أحمد من حس تمثيلى عالٍ، وفيها تشعر كما لو كان زكريا أحمد قد خلق ممثلًا، أو أنه تلقى تدريبه فى أعلى المعاهد السينمائية، وليس ممثلًا بالصدفة كما يقول.
مقلب الفرنسية الحسناء الذى وقع فيه «الشيخ»
وعن ذكريات شيخ الملحنين عن أجواء الاشتراك فى هذا الفيلم، يسرد العديد من المواقف الكوميدية التى مر بها، بداية من «سبت القراقيش والبيض» الذى اصطحبه معه فى الباخرة، وحتى تعرض الباخرة للغرق بفعل قيام عاصفة عاتية كادت أن تودى بحياة طاقم العمل كله، ثم وصوله إلى باريس، وغرقه فى متابعة المسارح والكازينوهات الفرنسية، وحتى تعرفه على حى العرايا كما يقول، ولعل أطرف المواقف التى يذكرها شيخ الملحنين هو موقفه مع الحسناء الفرنسية التى ورطه صديقه معها، إذ يقول إن أحد أصدقائه قال له: عندما تأتى الآنسة فلانة لتقدم لك الشاى قل لها هذه الكلمة وهى تعنى «أشكرك»، وبالفعل قال لها زكريا تلك الكلمة، وهو الذى لا يعرف حرفًا واحدًا من الفرنسية، وحينما قال للفتاة هذه الكلمة انزعجت انزعاجًا شديدًا، لأن الكلمة لم تكن «أشكرك» ولكنها كانت «أعطنى قبلة»، وفى اليوم التالى حينما قابل زكريا ذات الفتاة تقدم منها وقال لها «لا.. أعطنى قبلة»، وكان يظن أنه حينما يضع كلمة «لا» فى بداية الكلمة فمعناها أنه ينفى الأمر، لكن الفتاة لم تتضايق هذه المرة وضحكت كثيرًا لأنها تيقنت من أنه ضحية لمقلب، وأنه لا يعرف الفرنسية، لكن هذا الموقف لم يمر على زكريا أحمد مرور الكرام، فأصر أن يتعلم الفرنسية، فحفظ كل يوم مائة كلمة.
يعقوب البطل الاسطورى لأغنية الأولة في الغرام
كيف تعرض زكريا أحمد للسرقة والبلطجة فى تركيا والتقى رياض السنباطى فى بيروت؟
طريفة هى تلك المواقف التى تعرض لها زكريا أحمد فى سفرياته المتعددة، ومن ضمن الصور النادرة التى ننشرها اليوم، صورة له وهو فى بيروت، وقد أرخت تلك الصورة بسنة 1944، ويبدو فى الصورة محاطًا بموسيقيين وعاملين فى إذاعة بيروت، وبرغم أن مذكرات زكريا أحمد لا تخص تلك الزيارة بالتحديد بمزيد من التفاصيل، لكننا نفهم من المذكرات أن لبلاد الشام بشكل عام، ولبنان على وجه الخصوص، مكانة خاصة فى قلب زكريا أحمد، فإليها لجأ بعد أن ذاق الأمرين فى تركيا، وتعرض للسرقة مرة وللبلطجة مرة، حتى أجبره سارق تركى على خلع سترته فى الشارع، كما تعرض للسرقة من سائق التاكسى الذى لف ودار فى المدينة كلها حتى يوهم زكريا أحمد بأن المسافة بعيدة، وتعرض لبلطجة من شحاذ «طويل عريض» فأجبره على دفع «حسنة» بعد أن كشر فى وجهه وتهجم عليه طالبًا «حسنة» فأعطاه «ريال مجيدى»، وهو مبلغ كبير بالنسبة لشحاذ، لكن مع هذا لم يرض الشحاذ التركى، ومضى يشتمه ويسبه باللغة التركية، ومرة أخرى وفى أثناء تجوال زكريا أحمد فى شوارع تركيا قابله شخصان، وكل واحد منهما يمسك فى يده خنجرًا مصقولًا، وأخذا كل ما معه من نقود، كما أخذا ساعته الذهبية، و«جاكت بدلته»، بعدما تأكدا أنه من الأنواع الفاخرة، ولولا عثور زكريا أحمد بالصدفة المحضة على مبلغ عشرة جنيهات مصرية لظل فى تركيا يواجه بلطجة أشقيائها، وبجاحة شحاذيها، ونصب سائقيها.
بعد تلك الرحلة المضنية سافر زكريا إلى بيروت كما ذكرنا، وفى الطريق مر على جزيرة رودس ثم أضاليا ثم مرسين، ثم الإسكندرونة، ثم طرابلس الشام، حتى وصل إلى بيروت، كان حدث ذلك كما تقول «مذكرات زكريا أحمد» التى كتبها صبرى أبوالمجد فى أغسطس 1927، وأول ما ذهب إليه شيخ الملحنين هو مقهى «كوكب الشرق»، ثم فندق يسمى بـ«دار السرو»، وفى اليوم التالى لمكوثه فى بيروت فوجئ بوفاة زعيم الأمة سعد زغلول، ويرصد زكريا أحمد ما رآه من حزن ووجوم على وجوه أبناء بيروت بعد وفاة الزعيم، ولعل هذا سبب أن عقد نيته على السفر فى اليوم التالى، بعد أن سهر هذا اليوم مع رياض السنباطى، وأمين عطا الله، وأمين حسين ليسمعوا المطربة مارى جبران جبران، وفى الطريق يمر على حيفا وغزة ثم القنطرة ثم القاهرة، لكن الكاتب الكبير الراحل صبرى أبوالمجد يقول فى ختام حديثه عن تلك الزيارة: إن تلك الزيارة لم تكن الأخيرة، وإن زكريا حينما عاد من الشام أخذ يفكر فى السفر إليه مرة أخرى، وبالفعل فقد سافر مرتين إلى هناك، مرة من أجل الفسحة، ومرة من أجل العمل لرفعة شأن الموسيقى العربية، ولعل تلك الصورة التى نعرضها اليوم أخذت فى المرة الثانية، التى خصصها زكريا أحمد للعمل.
وإننى آمل من أن يكون نشر هذه الصورة دافعًا للإخوة الباحثين والموسيقيين فى بيروت من أجل كشف تفاصيل هذه الرحلة، ومعرفة ما الذى فعله «زكريا» فى الإذاعة اللبنانية سنة 1944.
زكريا أحمد.. نجم سينمائى فى صورة نادرة
ثلاث صور نادرة أخرى ننشرها اليوم، احتفالًا بذكرى كبير الملحنين وشيخ الموسيقيين، مكتشف العباقرة، وراعى الأخلاق المصرية فى الأوساط الموسيقية، واحدة فى شبابه، وهو يرتدى الطربوش على رأسه، ويبدو أنها التقطت له فى المرحلة التى تلت خلعه العمامة الأزهرية، والثانية وهو يرتدى ملابس «كاجوال» فى شبابه أيضًا، ويبدو أنها التقطت له فى نفس جلسة تصوير صورة أخرى منشورة له مضجعًا على كرسى، فاردًا قديمه فيما يشبه طريقة الـ«فوتوسيشن» المتبعة اليوم، وتبدو ملامحه فيها أقرب لملامحه فى فيلم «أنشودة الفؤاد»، ما يوحى بأنها ربما تكون قد التقطت لتناسب النجم السينمائى زكريا أحمد، وليس الشيخ زكريا أحمد، أما آخر الصور التى ننشرها اليوم فتجسد الشيخ زكريا أحمد وهو ممسك بعوده، وعلى يمينه أحد العازفين يعزف على الكمان، وعلى يساره الفنانة الكبيرة نجاة الصغيرة، وبجانبها شخص جالس، ويبدو من الصورة أنها التقطت أثناء تأديه بروفة، حيث تظهر «نجاة» فى حالة غناء، كما يبدو على الشيخ «زكريا» أنه منسجم فى العزف على العود، سارحًا فى أنغامه وقد أغمض عينه، «عفقت» يده اليسرى على رقبة العود، وراحت اليسرى لتداعب الأوتار، ونلاحظ هنا أن العود الذى يمسك به شيخ الملحنين يتبع الطراز الشرقى فى الشكل والزخرفة وحجم القالب، ما يوحى بأنه من صناعة أحد صناع المدرسة المصرية فى صناعة الأعواد، مثل خليل الجوهرى، أو محمود على، أو عبدالعزيز الليثى، أو رفلة أرازى، أو حنفى محمد، أو غيرهم من الصناع المميزين.
صورة نادرة لزكريا أحمد مع نجاة الصغيرة في جلسة خاصة
وبمراجعة تاريخ أعمال زكريا أحمد التى تصل إلى الألف أغنية، والتى بذلت الدكتورة إيزيس فتح الله مجهودًا مشكورًا فى جمعها وتدوينها وتحقيقها، وجدنا أنه من الثابت أن «نجاة» غنت للشيخ «زكريا» أغنية «نادانى الليل» سنة 1956، وقد كتب كلمات تلك الأغنية الشاعر محمد على أحمد، وهناك بعض المراجع التى تذكر أنها غنت له أيضًا أغنية «أنا كل ما أتوب أرجع تانى»، التى كتبها بيرم التونسى، وقد أثبتت «فتح الله» أن هذه الأغنية مصنوعة فى عام 1950، أى أنها صنعت وعمر السيدة نجاة الصغيرة 12 عامًا، كما أنها ذكرت فى الموسوعة أن المطربة التى غنتها هى المطربة «أحلام»، لكن ربما تكون السيدة «نجاة» قد غنت هذه الأغنية فيما بعد، وهو الأمر الذى كان شائعًا وقتها، وكانت السيدة «نجاة» كثيرًا ما تفعل هذا الأمر، وسبق أن غنت العديد من الأغنيات الخاصة بالموسيقار محمد عبدالوهاب، كما غنت أغنية الفنانة الكبيرة ليلى مراد «ليه خلتنى أحبك»، ولهذا أتوجه برجاء إلى السيدة الكبيرة نجاة الصغيرة، التى نسأل الله أن يمتعها بتمام الصحة والعافية، أن توضح لما حقيقة هذا الأمر، خاصة أن هذه الأغنية من المفقودات، التى لم نستدل على تسجيل لها، سواء بصوتها أو حتى بصوت «أحلام»، وياحبذا لو كانت بالفعل قد غنتها، وأن تسجلها بصوتها الآن لنتعرف على هذا اللحن المفقود.
زكريا أحمد في عشرينيات القرن الماضى
الحديث عن زكريا أحمد لا ينتهى، والغوص فى حياته واستعراض إنجازاته وإسهاماته فى رفعة الموسيقى العربية لا يعترف بالحدود، فلا يجوز أن نختصر البحر فى موجة، كما لا يجوز أن نختصر الكون فى نجمة، وما قرأته فى هذه السطور ليس سوى محاولة صغيرة لاستعادة هذا الكيان الضخم، لا من أجل التذكير به، ولا الاحتفال بذكراه، فهو فى التاريخ خالد، وفى الوجدان صامد، وفى الفن رائد، لكن من أجل أن التذكير بأصلنا، والاحتفال بتلك الأرض التى أنجبت هذه العبقرية النادرة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة