اتصل الرئيس السورى، حافظ الأسد، بالرئيس السادات، متسائلًا: «هل تفهم معنى ما تفعل؟»، كان الاتصال والسؤال يوم 17 يناير 1974، حسب تأكيد الكاتب الصحفى البريطانى باتريك سيل فى كتابه «الأسد - الصراع على الشرق الأوسط»، عن «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر - بيروت»، مضيفًا: «كان الأسد قد سمع أن رئيسى الأركان، المصرى الفريق محمد عبدالغنى الجمسى، والإسرائيلى، سيجتمعان فى اليوم التالى 18 يناير، ليوقعا على اتفاقية لفصل القوات عند الكيلو 101، وكانت تلك محاولته الأخيرة لإيقافها، لكنها ذهبت أدراج الرياح».
تم هذا الاتفاق بعد وقف إطلاق النار بين مصر وإسرائيل كختام لحرب أكتوبر 1973، وكان مهندسه وزير الخارجية الأمريكية هنرى كيسنجر، بعد زياراته المكوكية بين أسوان، حيث يقيم السادات، وتل أبيب، حيث الحكومة الإسرائيلية، وهى المفاوضات التى شهدت بكاء «الجمسى»، وقصته كما يرويها وزير الخارجية وقتئذ إسماعيل فهمى فى مذكراته «التفاوض من أجل السلام فى الشرق الأوسط» عن «مكتبة مدبولى - القاهرة»: «جلسنا فى محادثات حادة وسرية لمدة ساعتين، وأبلغ كيسنجر الحاضرين ببنود الاتفاق الذى توصل إليه مع السادات حول مسائل عسكرية، وكان السادات قد وافق فجأة على قصر الوجود العسكرى المصرى على الجانب الشرقى للقناة على 7 آلاف رجل و 30 دبابة، وبهذا أدهش الجميع بمن فيهم كيسنجر والإسرائيليون».
يضيف «الجمسى»: «فى الواقع كان كيسنجر يقول طوال الوقت إن السادات لن يرضى فيما هو مرجح بأقل من 250 دبابة»، ويؤكد: «انزعج الجمسى الذى لم يؤخذ رأيه، وشعر بأن شرفه وشرف الجيش المصرى تعرضا لإذلال شديد، فاغرورقت عيناه بالدموع، ونهض على الفور من مقعده، وتراجع إلى ركن قصىّ فى القاعة وبدأ يبكى، وشاهده الجميع وبدأوا يتململون، وتأثرت مشاعر الوفد المصرى الذى كان يشعر بشعور الجمسى، وشحب لون كيسنجر وظل يدمدم قائلًا: ما الخطأ الذى قلته؟، وعندما عاد الجمسى إلى المائدة صامتًا كسيرًا بدأ كيسنجر يغرقه بمديح مسرف».
فى دمشق كان الغضب شديدًا، وعبّر عنه «الأسد» فى اتصاله، وحسب «سيل» قال لـ«السادات»: «إن ذلك يعنى أن إسرائيل ستنقل إلى جبهتنا كل دبابة وكل مدفع لها فى سيناء»، فرد «السادات»: «لا تقلق سآتى لأراك غدًا»، فرد «الأسد»: «أهلًا وسهلًا، لكن يجب أن تدرك خطورة توقيع مثل هذه الاتفاقية»، وفى 19 يناير «مثل هذا اليوم» 1974، طار «السادات» على رأس وفد إلى دمشق، وحسب «سيل»: «جابههم الأسد بوجه كالصخر، مقطب الجبين، ومعه وفد عبر طاولة فى غرفة المفاوضات والمؤتمرات بالمطار، واستمر اللقاء تسع ساعات، وافتتحه السادات بلهجة من التحدى.. فسأل: وماذا تعنى بقولك إننى أدخل فى اتفاقيات ثنائية محضة؟.. رد الأسد: أعنى أن مصر تترك المعركة، وتابع: إن القوات الإسرائيلية المواجهة لكم الآن ستنقل إلى الجولان.. رد السادات: ولكنى ملتزم بسوريا، وسأظل كذلك دائمًا».
يضيف «سيل»: «فى بادئ الأمر دعا الأسد أعضاء الوفد السورى للكلام، وعندما جاء دوره بدأ يشرح مفهومه للالتزام بلهجة مليئة بالعاطفة الجياشة، فقال: هناك بلدان عديدة ملتزمة بسوريا، بمعنى أنها تدين العدوان والاحتلال الإسرائيلى، وباتفاقية فصل القوات ستصبح مصر مجرد دولة أخرى تقدم لسوريا التعاطف ولا شىء سواه، ومثل هذا الالتزام الفاتر من مصر غير مقبول، فالجيش المصرى يجب أن يبقى فى الميدان، فقد ألزمنا أنفسنا بخوض الحرب معًا، وقاتلنا معًا، فكيف تغيرت الأشياء الآن؟».
يواصل «سيل»: «بعد مناقشات طويلة لكنها غير حاسمة، اقترح السادات أن ينسحب الوفدان ويتركاه والأسد وحيدين.. واستمرت المشاحنات الكلامية، وسأل الأسد: هل كان صحيحًا أن قناة السويس سيعاد فتحها وأن إسرائيل سيسمح لها باستخدامها؟.. ضحك السادات، وقال له: هل تصدق ما تقرأ فى الصحف؟، إننى أريد أن أخدع إسرائيل، إننى لا أنوى فتح القناة»، «تم فتحها يوم 5 يونيو 1975»، ويضيف «سيل»: «عاد الأسد إلى همه الأساسى فقال للسادات: إذا كنت تعتقد بأننى أريد أن تبقى فى الميدان لأننى خائف من القتال وحدى فأنت مخطئ، فالموضوع ليس موضوع خوف، بل إن المسألة هى أننى لن أستطيع تبرير حركتك للرأى العام العربى، وهذا سيؤدى بالتأكيد لفقدان الثقة، لماذا أنت فى عجلة لتحقيق فصل القوات؟.. ألا يمكنك أن تبقى نقطة مواجهة واحدة؟، ربما وحدة واحدة على الجبهة، إن هذا سيكون على الأقل إشارة للإسرائيليين والعرب بأن الجيش المصرى لا يزال يواجه إسرائيل، وبأن الحرب قد تندلع فى أية لحظة، وعندئذ لن تتمكن إسرائيل من أن تستريح استراحة كاملة.. رد السادات: حسنًا حسنًا، اطمئن ولا تقلق، سوف أبقى وحدة مشتبكة مع الإسرائيليين»، ويعلق «سيل»: «لكن الأسد فى هذه المرحلة لم يبق لديه ثقة فى مثل هذه الوعود».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة