حينما التقيتُ به للمرة الأخيرة فى استاد الدفاع الجوى قبل شهور، نظر إلىّ ضاحكًا، ثم أشهر سبّابتَه فى وجهى وهو يمازحنى: «قضيتك الجاية امتى يا بنت ناعوت؟ تعبتينا معاكى تضامن عشان متتسجنيش مننا». فأجبته مبتسمة، معتمرة قناع العتب: «اتعلمنا منكم يا أستاذ أن الجهاد فى سبيل الحق شرف... وفاتورته غالية».
ولستُ وحدى تلميذةَ هذا الرجل هادئ الوجه، شرس الفكر، فأولاده وتلامذته ملء السمع والبصر على طول العالم وعرضه، كلٌّ يحتلُّ موقعَه الخاص، فى جيله ومكانه ومكانته وحقله التنويرى، نختلف فى كثير الأمور، ونتفق فى أننا ورثنا عنه قبسًا من المشعل الثقيل الذى حمله منذ صباه الأول، وحتى يوم طيرانه للسماء، يُشهر مشعله فى وجه الإخوان المظلم، ليفضح سوءتَهم، ويكشف عوارهم، ويزلزل أبصارَهم، ويُصدّع بنيانهم.
العارى يكره فاضحَه. قاعدةٌ لا استثناءَ فيها، لهذا لم يمقتِ الإخوانُ أحدًا، مثلما مقتوا ذلك الرجل النبيل، لأنه فاضحُهم وفاضحُ عرّابهم الأول «حسن البنّا». ولم يفرحِ الإخوانُ فى رحيل أحدٍ، مثلما رقصت قلوبُهم طربًا يوم رحيله إلى فردوس الله، بإذن الله، أمس الأول، لكن محدودية أذهانهم، لم تنبئهم بأن «الفكرة» تحيا، وإن مات العقلُ الذى أطلقها، لأن الأفكار لا تموت، فما بالنا بعقل نيّر، هو فى ذاته ماكينة أفكار لا تبلى، ولم تتوقف عن العمل طوال سبعين عامًا، ظلّت تنثر الأفكار وتُضوى مشاعل التنوير فى كل بقاع الأرض المظلمة! هل يموت هكذا عقلٌ؟! هل يموتُ عقل رجل، وُلِد زعيمًا وبدأ مسيرته الفكرية وهو بعدُ صبىٌّ، وذاق ظلام المعتقل فى بداية الأربعينيات الماضية وهو فى السادسة عشرة من عمره، لأن أفكاره كانت خارج الصندوق الذى يريده الحاكم، فنال بهذا لقب: «أصغر معتقل سياسى» فى تاريخ مصر؟! ثم تلا ذلك الاعتقال اعتقالاتٌ عديدة لمواقفه الحاسمة ضد تغوّل الرأسمالية التى تدهس الفقراء والعمال، حتى أنه أخبرنا أن «حقيبة السجن» كانت جاهزة دائمًا جوار باب الشقة. كما أنه كان أكثر من رفض اسم «انتفاضة الحرامية» التى أطلقها الرئيس أنور السادات، على انتفاضة 77، التى كان اسمها الحقيقى: «انتفاضة الخبز»، كما يعرفها كلُّ مثقف فى مصر يكره الظلم ويناصر العدالة الاجتماعية.
الآن، فى هذه الأيام من يقظة الوعى، بات كلُّ طفل صغير فى مصر يقول «إن الإخوان جماعة إرهابية» بات القولُ صفةً وموصوفًا، يعرفه الصغير والكبير، المثقف وغير المثقف، القارئ والكسول عن العلم، عارفُ التاريخ، وجاهله، لكن الوضع لم يكن هكذا منذ خمس سنوات، أو عشر سنوات، أو عشرين سنة، بدليل أن قطاعًا كبيرًا من شعب مصر انتخب أولئك «الإرهابيين» ليحكموا مصر، وقتها لم يكن يعرف أنهم إرهابيون، إلا من قرأ تاريخهم الأسود منذ عام 1928. وأولئك هم الذين لم يشاركوا فى «جريمة» انتخابهم، وأشكر اللهَ على نعمة كونى من بينهم، فأنا وكثيريون غيرى لم نغفل يومًا عن إجرامهم فى حق مصر والإنسانية والإسلام، منذ نشأتهم، لكنّ أولنا فى تلك اليقظة هو أستاذنا المناضل التنويرى د. رفعت السعيد»، رحمه الله رحمةً واسعة، بقدر ما أحب مصر، وبقدر ما حارب أعداءها، وفى مقدمتهم جماعة الإخوان العجوز. فكان هو أولَ من وسم ووصم جماعة الإخوان بأنها «إرهابية». ليس حين قررت ذلك الدولُ التى طالها إرهاب الإخوان بالأمس القريب؛ بعد سقوطهم عن عرش مصر، بل قبل ذلك بسنوات وسنوات. بل إن الشاهد أنه رصد خبيئتهم الخبيثة وهو فى مقتبل عمره، بعد سنوات من مولده عام 1932، وكان عمر تلك الجماعة الدموية لم يُكمل السنوات الأربع، فى تقديرى الخاص، أن وجعه المبكر على فقراء المزارعين من أبناء الطبقة الكادحة، المعروفة فى الأدبيات الماركسية بطبقة البروليتاريا، اشتقاقا من الكلمة اللاتينية Proletarius ومعناها «مواطن الطبقة الفقيرة»، هو الذى رسم خارطة حياته وجعل منه ذلك الزعيم اليسارى الأشهر، ودفعه لنيل شهادة دكتوراه فى تاريخ الحركة الشيوعية من ألمانيا، وكذلك شكّل خصومته المبكرة مع فكر الإخوان وكل تيارات الإسلام السياسى، التى كانت تسغل فقر الفقراء وجهل الجاهلين وتستقطبهم بالشعارات الكذوب لتجييشهم ضد الإنسان بشكل عام، وضد صالح الأوطان بشكل أخص، طمعًا فى المغانم والسيادة والسلطان. لهذا كان هو أول من حلّل شخصية الإرهابى الأول فى مصر «حسن البنا»، واصفًا إياه بـ«الإرهابى المتأسلم» فى كتابه المهم: «حسن البنا.. متى وكيف ولماذا؟». ولم يتغير موقفه الحاسم والنهائى و«الواعى» من جماعة الإخوان، منذ نشأتها عام 1928، وحتى اقتناصهم عرش مصر، ثم سقوطهم المروع، وحتى آخر أيام حياته، كان وظل يراهم طوال الوقت عصابة من الإرهابيين أعداء الوطن وخصوم الإنسان. وهم كذلك، وسجّل أفكاره الواعية تلك فى كتابه المهم «ضد التأسلم»، الذى فنّد فيه عوار الفكر الإخوانى تفنيدًا سياسيًّا سيكولوجيًّا دينيا مبهرًا، عطفًا على عديد من المؤلفات المشرقة التى يضيق بذكرها مقالى هذا. لهذا كلّه لم يكن غريبًا على مرشد الإخوان «مهدى عاكف» أن ينطق اسم «رفعت السعيد»، حينما سُئل: «من ألد أعداء الإخوان؟».
بالأمس، سقطت ورقة مهمة ونبيلة عن شجرة مصر الوارفة، فيا أستاذى النبيل: نم ملء جفونك عن شواردها، فقد أتممت رسالتك غير منقوص تمامُها، وأشعلت شمعتَك لا يزوى ضوؤها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة