د. عباس شومان

خطورة التدخين

الأربعاء، 05 يوليو 2017 10:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كثرت الأقوال فى التأريخ لظهور التدخين، فمنها ما يرده إلى سنوات ما قبل الميلاد، ومنها ما يربط بينه وبين اكتشاف الرحالة الإسبان للقارة الأمريكية فى القرن الخامس عشر الميلادى، وأيًّا كان تاريخ ظهوره فلا شك أن ملايين البشر قد اعتادوا التدخين فى صور مختلفة. ومن الأعاجيب التى ارتبطت بالتدخين وراجت مدة طويلة ما أشيع من أن التدخين دواء لكل داء، ولا أدرى كيف يكون التدخين دواء وأمارات الضعف الجسدى ومشاكل التنفس واصفرار الوجه وتلف الأسنان وفقد الشهية واضحة للعيان فى المدخنين؟! كيف يكون التدخين دواء وقد اكتشف الأطباء بعد تشريح جثة أحد المدخنين الشرهين وجود تليف فى الرئتين، وأن الرئتين بدتا كما لو كانتا موقد نار من السواد؟!
 
وبعد ثبوت ضرر التدخين فى البلاد التى ظهر فيها تفتَّقت أذهان شرار القوم عن تصدير هذا الاختراع المدمر إلى بلاد يناصبونها العداء ويسعون بكل قوة لإضعافها والقضاء عليها، بدلا من السعى للتخلص منه وتحذير الناس من أضراره ومطالبتهم بالإقلاع عنه، فصدروا كميات منه فى البداية إلى بلاد المغرب العربى مصحوبة بالشائعة التى صاحبت ظهوره عندهم، وهى أنه دواء لكل داء، ومن بلاد المغرب العربى انتقل مع التجار إلى مصر، وكانت النتيجة ما نراه الآن من وضع مزرٍ، حيث أقبل الشباب والرجال وحتى النساء والأطفال على التدخين بشراهة، ولم تُكتشف حقيقته وخطورته إلا بعد فوات الأوان!
 
وعلى الرغم من اكتشاف حقيقة التدخين وترسخ خطورته فى الأذهان، فإنه واصل رحلة انتشاره بنجاح شديد إلى يومنا هذا، ولعل السر وراء عدم إقلاع كثير من الناس عن التدخين مع علمهم اليقينى بأضراره وتسببه فى أمراض كثيرة خطيرة تفتك بصحة الإنسان وتبدد ماله، ومن أخطرها السرطان الذى يعد طاعون العصر الحالى، أن مادة النيكوتين الموجودة فى التبغ تختلط بالدم وشيئًا فشيئًا تصبح وكأنها جزء من تكوينه، فإذا قلَّت نسبته اختل مزاج المدخن، فيضطر إلى اللجوء للتدخين لضبط مزاجه، وهو ما يشبه ما يحدث للمدمنين بالمخدرات ونحوها، وإن كان إدمان المخدرات أشد خطرًا وأكثر فتكًا بصحة الإنسان.
 
ومن الناحية الشرعية هناك خلاف بين الفقهاء حول حكم التدخين، ولعل صورة التدخين وطبيعته لم تكن معروفة زمن الفقهاء القدامى، لذا خلت فتاواهم من الإشارة إليه، وربما يرجع ذلك إلى بقاء أثر الشائعة التى صاحبت ظهور التدخين، وهى أنه دواء فعَّال وليس سببًا للداء، حيث ذهب بعض الفقهاء إلى القول بتحريم التدخين تحريمًا قطعيًّا، بل ذهب بعض أصحاب هذا الرأى إلى القول بأنه كالخمر، أى يقام الحد على المدخن قياسًا على شارب الخمر، وعللوا ذلك بأن المدخن يشعر بسُكْر خفيف عند بداية تدخينه يزول بعد تكراره للتدخين، بما يعنى أنه مسكر كالخمر وإن كان إسكار التدخين أخف من الخمر، وقليل الإسكار وكثيره لا يؤثر على الحد، فالفقهاء مجمعون على أن الإسكار من المحرم عمدًا موجب للحد، وأرى أن هذا الرأى فيه إفراط، لأن ما يشعر به المدخن عند بداية التدخين ليس من الإسكار فى شىء، بل هو نوع من التفتير والدوار كالذى يشعر به من يدور حول شىء ما وسرعان ما يتعود عليه بالتكرار، وإذا كانت الحدود تدرأ بالشبهات، فإن القول بوجوب الحد على المدخن قياسًا بشارب الخمر مردود، لأن الإسكار من التدخين أمر مظنون لا يقينى.
 
وذهب فريق آخر من الفقهاء إلى القول بإباحة التدخين كإباحة الطعام والشراب، فلا تحريم عندهم للدخان ولا ذنب على المدخن.
 
وربما تأثر هذا الفريق بالشائعة التى صاحبت ظهور الدخان وهى كونه دواء، والأدوية من المباحات، فضلًا عن أن الأصل فى الأشياء الإباحة ما لم يثبت التحريم. وهذا الرأى فيه تفريط غير مقبول، فأى منفعة وأى فائدة للتدخين إذا كان الطب يؤكد بما لا جدال فيه أنه ضار للمدخن ولمن جاوره كذلك؟! ومن ثم فإن القول بإباحة ما ثبت إضراره بالنفس والغير يتنافى مع المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية وما تقضى به قواعد شرعنا الحنيف؛ حيث إنه من المعلوم أن شريعة الإسلام تبيح النافع وتمنع الضار، فإذا شفعنا ذلك بمجموعة من النصوص التى تؤكد حرمة الإضرار بالنفس والغير، وتشدد فى حرمة الخبائث؛ لم يبقَ بعد ذلك لأصحاب هذا الرأى كلام.
 
وقد توسط فريق من الفقهاء بين التحريم والإباحة فقالوا بكراهة التدخين، وهؤلاء تدور عندهم حقيقة الدخان بين إضراره ونفعه، فكان تركه أولى فى رأيهم. وهذا الرأى على توسطه إلا أن خلفيته واهية؛ حيث لا يدور الدخان الآن بين النفع والضرر، وأن أحدهما لم يترجح على الآخر، بل لا ينكر أحد الآن ولا تخفى عليه حقيقة إضرار الدخان بالمدخنين ومن يجاورهم فى أثناء التدخين، وهو ما يعرف بالتدخين السلبى.
 
وعلى ذلك، فإن رأى القائلين بتحريم التدخين تحريمًا قطعيًّا هو ما تشهد له نصوص شريعتنا ومقاصدها الكلية وقواعدها الفقهية المعتبرة التى تحفظ النفس من أسباب الضرر وتمنع الإضرار بالآخرين، ومن ذلك قول الله تعالى: «وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ»، وقوله سبحانه: «وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا»، وغير ذلك من نصوص، فضلًا عن القاعدة الشرعية: «لا ضرر ولا ضرار»، والتدخين ثبت ضرره يقينًا بصحة المدخن، وفيه ضرار أيضًا، وهو إيقاع الضرر على الغير من خلال التدخين السلبى الذى يقول الأطباء إنه أكثر إضرارًا من التدخين الإيجابى، ويقصد بالتدخين السلبى ما يتعرض له غير المدخنين جراء تدخين الآخرين قريبًا منهم ولا سيما فى الأماكن المغلقة، وهو ما ينبغى أن ينتبه له كثير من الآباء، ويؤسفنا أن نقول والأمهات أيضًا، الذين لا يكفون عن التدخين بين أبنائهم، فيؤثرون عليهم صحيًّا ويجرونهم إلى تقليدهم ولو من باب التجربة!
 
ولذا، فإنه بعيدًا عن القوانين التى ينبغى أن تكون صارمة فى منع أسباب الإضرار بالغير ومنها التدخين فى أماكن العمل ووسائل المواصلات والتجمعات، فعلى المدخنين أن تكون لديهم قناعة داخلية من تلقاء أنفسهم بضرر التدخين على النفس والغير وإتلافه للمال وإنفاقه فيما لا نفع فيه بل فيه مضرة يقينية، وهو نوع من الإسراف والتبذير المنهى عنه بكتاب الله وسنة رسوله، وهذه القناعة هى ما ييسر على المدخنين الإقلاع عن التدخين، وقد نجح كثير من الناس فى الإقلاع عن التدخين ليس خوفًا من القانون، ولكن للحفاظ على الصحة والمال ووقاية الأبناء من الوقوع فيه بعد تأكدهم من أضراره وخطورته، ومن ثم يجب التوسع فى التثقيف بأضرار التدخين والتنفير منه من خلال المناهج الدراسية، ولا سيما فى المراحل المبكرة والمتوسطة من التعليم، وكذلك الأنشطة الدعوية والفعاليات الثقافية والوسائل الإعلامية والأعمال الفنية الموجهة والهادفة.









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة