حتى نستطيع أن نقيم النظام الحالى لأبد أن نقرأ واقعه وندرس ظروفه ونستوعب معطياته السياسية. فلا أحد ينكر أن نظام يونيو جاء بعد 25 يناير وبعد سقوط نظام مبارك، بل بعد فوضى عارمة اجتاحت كل مجالات الحياة، فغاب الأمن وسقط الأمان، وتبخرت السياحة، وأغلقت المصانع، وترسب الاحتياطى النقدى الأجنبى، وتفشى الفساد، حتى أصبحت دولة فساد، كل هذا بالإضافة إلى مشكلة اقتصادية بدأت منذ سبعينيات القرن الماضى، وعندما بدأ ما يسمى بعجز الموازنة العامة، ذلك العجز الذى كانت قيمته عام 1987 /1989 خمسة مليارات جنيه، وأصبح الآن فى موازنة 2017/2018 ما يقرب من 350 مليار جنيه، بالإضافة إلى ديون داخلية تعدت التريليونين والنصف مع ديون خارجية وصلت إلى 88 مليار دولار، غير الديون المقبلة مثل قرض إنشاء مفاعلات الضبعة.
هذا مع نسبة فقر وصلت فى محافظات مثل محافظة أسيوط إلى 90٪، ونسبة تضخم ستصل بعد الزيادات الحالية، نتيجة رفع الدعم عن المحروقات، الى 40 ٪.
فهذا الوضع الاقتصادى المزرى والمتراكم عبر عقود يجب أن يواجه بحلول جذرية، حتى لا نستمر فى السير فى الطريق الخطأ.
هنا لابد أن يكون هناك دواء لهذا المرض، وإن كان هذا الدواء دواءً مرًا، ولكن هل يجب أن نتجرع جميعًا هذا الدواء وكلٍ حسب قدرته؟ أم يكون هذا الدواء من نصيب طبقة معينة وفئة بذاتها دون الآخرين؟ والحديث عن الدعم هذا لا علاقة له بنظام اشتراكى أو نظام رأس مالى.. فالدعم بدأ مع إنشاء ما يسمى بوزارة التموين فى أربعينيات القرن الماضى بهدف إحداث توازن ومواءمة سياسية بين الدخول المنخفضة، أو غير الحاصلين على دخول أصلًا، وبين أسعار السلع.
كما أنه قياس قيمة الدعم ليس بكميته المادية، ولكن بقيمته الشرائية.. وعلى ذلك يمكن اكتشاف أن قيمة العجز لهذا الدعم تزداد ومنذ سنوات مع فقد الجنيه لقيمته الشرائية أمام العملات الأخرى، وهذا ما شاهدناه بعد عملية التعويم الكامل للعملة فى 3 نوفمبر 2016.
كما أن برنامج الحكومة، الذى وافق عليه البرلمان تماشيًا مع متطلبات صندوق النقد الدولى، حتى تحصل على قرض الصندوق، كان من أهم مطالبه إلغاء الدعم بما يعنى ارتفاع أسعار السلع المدعمة ارتفاعًا يتساوى مع الأسعار العالمية فى الوقت الذى لا تتساوى فيه الأجور مع الأجور العالمية.. ورغم ذلك كانت تلك القرارات الاقتصادية، التى ستصل إلى الإلغاء الكامل لهذا الدعم.
وهنا وجدنا وشاهدنا مدى التأثير السلبى على الطبقات الفقيرة والمعدمة، بل والطبقة المتوسطة نتيجة لهذه القرارات، خاصة أن رفع سعر بيع المحروقات تؤثر فى أسعار نقل الأفراد والسلع بلا استثناء.
وفى ضوء غياب الرقابة التموينية وفى ظل عدم تطبيق التسعيرة الجبرية بحجة أنها تتناقض مع نظام السوق الحر، مع العلم أن هناك دولا رأس مالية قولًا وفعلًا تراقب وتحدد الأسعار، فى الوقت الذى تكرر فيه الحكومة الوعد بهذه الرقابة، بل إن الرئيس السيسى بعد هذه القرارات أوصى بضرورة وحتمية هذه الرقابة، خاصة أن غياب هذه الرقابة جعل الأسعار، كل الأسعار وكل السلع، فى مهب ريح التجار وبأمرهم، من تاجر الجملة إلى الوسيط إلى التجزئة، مع العلم أن رفع الأسعار كان له مبرر بعد عملية التعويم، ولكن بعد استقرار سعر الصرف لا نعلم ولا ندرى لماذا تتم عملية الرفع للأسعار بلا ضابط أو رابط أو رقابة غير الكلام النظرى والتصريحات الشعارتية للحكومة.. نعم هناك قرارات أصدرها السيسى ووافق عليها البرلمان بعلاوة 15٪ للمعاشات وعلاوة استثنائية للعاملين الخاضعين لقانون الخدمة المدنية ولغير الخاضعين للقانون وإعفاء المزارعين من ضرائب الأرضى الزراعية لثلاثة أعوام.
ولكن هل هذه العلاوات والزيادات والإعفاءات تماثل هذه النسبة من الزيادات فى كل الأسعار؟ ومن الذى يدفع هذه الزيادات؟ القادر الذى لا يتأثر البتة بهذه الزيادات أم الفقير، الذى لا يملك من الدخل أو الراتب ما يقيم به أوده؟
نعم هناك عجز فى الموازنة ويزداد عامًا بعد عام، ولكن كيف يمكن سد هذا العجز؟. سد العجز يأتى من تقليل المصروفات وزيادة الإيرادات، فلماذا نقتصر الأمر على تقليل المصروفات ونحجمه فى إلغاء الدعم الذى يجب أن يكون للفقير وليس الغنى، ف 40 ٪ من الأغنياء يحصلون على 60٪ من دعم الطاقة و40٪ من الفقراء يحصلون على 25 ٪ من دعم الطاقة، أليس هناك طرق كثيرة لتقليل المصروفات مثل المصروفات الحكومية والبعثات الدبلوماسية وأساطيل السيارات والبذخ فى الحفلات؟!. وهل هناك أى ظواهر لزيادة الإيرادات غير الاعتماد على مصادر ريعية أهمها الضرائب، التى يتم التهرب منها عيانًا بيانًا، فكم قيمة الضرائب المحصلة من المهن «أطباء، مهندسين، محامين، ممثلين،..الخ» ؟ وكم قيمتها بالنسبة لإجمالى الضرائب؟ ولماذا لا نزيد من الإيرادات عن طريق ترخيص ملايين من التكاتك، التى تدر مليارات الجنيهات؟ ولماذا لا نفرض الضرائب التصاعدية؟ وأين الضرائب على ناهبى الثروات الذين حولوا الأراضى الزراعية إلى جبال من الأسمنت؟ وأين استغلال المحاجر والثروة المعدنية؟
المصادر كثيرة لخفض المصروفات ولزيادة وتعظيم الإيرادات بغير تحميل الأعباء على غير القادرين، فلكل شىء قدرة ولكل شىء حدود، والعدالة الاجتماعية، التى أقرها الدستور، ليست فى علاوة، ولكنها فى توزيع الأعباء وتوزيع الناتج القومى وتحمل المسؤولية بالعدل والتساوى، كلٍ حسب قدرته، هناك مشكلة نعم، لابد من حلها نعم، هناك ثمن لهذا نعم، ولكن لابد للجميع أن يدفع هذا الثمن ويتجرعوا هذا الدواء المر.. هنا تكون مصر وبحق لكل المصريين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة