أحب المصريون جمال عبدالناصر، لأنه قال لهم: «ارفع رأسك يا أخى لقد انتهى عهد العبودية»، واتسم خطابه السياسى بإعلاء الكرامة والكبرياء، فتحملوا الصعاب والأزمات والتفوا حوله، وهتفوا باسمه، وغنوا له «يا جمال يا حبيب الملايين»، ولم يستحوذ رئيس حكم مصر على مثل هذا الكم من الأغانى الحماسية، وعندما يثق الشعب فى رئيسه يفوت فى الصعب ويواجه المخاطر، ويصطف حول هدف أعلى، هو مصر الأبية العالية القامة والهامة، وتختفى النعرات السياسية والاجتماعية والدينية، ويحتمى الجميع تحت راية العلم والنشيد.
وأحبوه لأنه كان مدافعا عن مصالحهم وانحاز للطبقات الشعبية، ولم يكن فى عصره أصحاب الكروش المنتفخة بالجشع والطمع، وحطم الرأسمالية المتوحشة، وأطلق الطاقات الكامنة والسواعد القوية، فقضى على مجتمع النصف فى المائة، المتوارث من النظام الملكى، وظهرت طبقة جديدة أخذت مكانها تحت الشمس، من أبناء العمال والفلاحين، وعظم ما أسماه الرأسمالية الوطنية، التى كانت درعا فى مواجهة الأزمات، وأفشلت الحصار الاقتصادى الذى فرضه الغرب، للنيل من النظام الثورى الذى يهدد مصالحم فى المنطقة.
وأحبوه لأنه وهب حياته لتحرير فلسطين، وجعلها قضية العرب الكبرى، التى تلتف حولها مختلف الأنظمة من المحيط إلى الخليج، وجعلها شعار القومية العربية، مات جمال عبدالناصر أكلينيكيا بعد هزيمة يونيو 1967، وواقعيا فى سبتمبر 1970، وأدرك أن شعار إلقاء إسرائيل فى البحر صار مستحيلا، وتراجع الطموح القومى إلى تحرير الأرض العربية من دنس الاحتلال، بعد هزيمة كبرى نفذت كالسهم الحاد فى قلب عبدالناصر.
عاش من أجل فلسطين.. ومات أيضا من أجلها.
أيلول الأسود هو الذى تسبب فى موت عبدالناصر، وكان محطة سوداء فى تاريخ الفلسطينيين والأردنيين والسوريين معا، فالفلسطينيون طمعوا فى الأردن، واستباحوا سيادته وأراضيه، ولم يراعوا حق الضيافة فى بلد أحسن معاملتهم، وأنشأوا دولة داخل الدولة تمنح التأشيرات، وتفرض الجمارك وتفتش المدن والمطارات، واستهانوا بالجيش الأردنى، وقتلوا أحد الجنود، وقطعوا رأسه، ولعبوا بها الكرة أمام أهله، وحاولوا خلع الملك حسين، ودبروا مؤامرات لاغتياله مرتين، وحولوا شوارع عمان إلى ميادين للحرب الأهلية.
أما الملك حسين، فربما يكون معذورا فى الاستعانة بالولايات المتحدة لتحمى دولته، وإرسالها سفنا حربية ووحدات من الأسطول إلى المنطقة، وتدحرجت كرة النار التى أحرقت الجميع، بحرب الإبادة والتصفية الدموية الشرسة للفصائل الفلسطينية فى الأردن، وتشريد عائلاتهم وحرق مخيماتهم، وكان الرئيس عبدالناصر المسخن بجراح هزيمة يونيو، لا ينام الليل والنهار، وبذل جهدا خرافيا أدى إلى انسداد ما تبقى من شريانه التاجى، وخروج حالته عن سيطرة الأطباء، وفاضت روحه لبارئها بعد أن نجح فى توقيع اتفاق القاهرة، من أجل حقن الدماء الفلسطينية.
التاريخ مجموعة من الدوائر السوداء، وأيلول الأسود كان محطة مظلمة أيضا فى تاريخ سوريا، التى تجنت على عبدالناصر، بتوريطه فى حرب 67 التى لم يكن مستعدا لها، ولعبت دور المنقذ الشرير فى حرب الفصائل الفلسطينية ضد الجيش الأردنى، وأرسل حافظ الأسد وزير الدفاع السورى فى ذلك الوقت، معظم جيشه إلى الأردن للحرب بجانب الفلسطينيين، ليس حبا فى سواد عيونهم، ولكن لإشعال جبهة القتال بعيداً عن الجولان، ولم يأمر بسحب قواته من الأردن، إلا بعد إنذار إسرائيلى باحتلال سوريا، التى لم تكن تحميها أية قوات، ولم يتحمل قلب عبدالناصر هذا التآمر العربى المهين.
مات جمال عبدالناصر فى الساعة السادسة والربع مساء يوم 28 سبتمبر 1970، وكان عمره 52 عاما و8 أشهر و13 يوما، ولم يكن يعانى من أمراض مستعصية، يمكن أن تؤدى إلى الموت فى هذه السن المبكرة، سوى السكر الذى أصيب به بعد هزيمة يونيو، ونجح الأطباء فى السيطرة عليه، بجانب تصلب الشرايين، وهى أمراض يتعايش معها من هم فى السبعين والثمانين، ولكن الحقيقة هى أن مشاكل العروبة هى التى قتلت عبدالناصر مع سبق الإصرار والترصد.
صدمة الموت المفاجئ لعبدالناصر، جعلت البعض لا يصدق أبداً أن وفاته طبيعية، حتى بالنسبة لأفراد عائلته، وفى تصريحات صحفية أثارت جدلا صاخباً، أعربت ابنته السيدة «هدى» عن اعتقادها بأن والدها قتل بالسم، وإن كان ذلك قد حدث فإن الذى فعلها- فى رأيها- هو السادات، ولكنها استدركت: «لست متأكدة ولا أملك دليلا»، ولم تتوقف هواجس قتل عبدالناصر بالسم عند تلك الرواية، فقد سبقتها اتهامات بأن الطبيب الخاص بعبدالناصر الدكتور على العطفى، كان يدلكه مستخدما السم بعد أن جندته إسرائيل، ولكن ثبت بعد ذلك أن هذا الطبيب لم يدلك عبدالناصر ولم يدخل غرفة نومه أصلا.
وظهرت وثيقة سرية بريطانية سنة 94، تقول إن السوفيت تورطوا فى إعطائه علاجاً بالأوكسجين، أثناء رحلته للعلاج فى موسكو، وهم موقنون أنه سيموت بعد ثلاثة أشهر، والعلاج بالأوكسجين يعطى لرواد الفضاء بنسب وضغط معين، لتعويض نقص الأوكسجين لبعدهم عن الجاذبية الأرضية، ويعطى للمرضى فى الحالات المتأخرة فى تضخم عضلة القلب والمشاكل العميقة فى الرئتين، ولكن الأطباء المعالجين لعبدالناصر كذبوا هذه الوثيقة، مؤكدين أن هذه الأعراض لم تظهر على عبدالناصر مثل انفجار الرئتين، نتيجة النسبة الخاطئة التى تتحدث عنها الوثيقة.
أسلم عبدالناصر الروح وقلبه معلقا بفلسطين وشعبها، وكان المشهد الأخير فى مطار القاهرة بعد أن ودع أمير الكويت، وقبله كل الزعماء العرب الذين حضروا القمة الطارئة لوقف مذبحة أيلول الأسود، وعاد إلى بيته وطلب كوب عصير، شربه ومات، تاركا ورائه عشرات من علامات الاستفهام حول أسباب الوفاة، تقرير الوفاة الرسمى يقول: إنه تعرض لصدمة قلبية نتيجة تلف عضلة القلب، ولم يوضح التقرير أسباب تلف عضلة القلب، لكنها آلام وأزمات العروبة، الأشد تأثيرا من أمراض القلب والسكر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة