يميز بعض الباحثين بين إعلام المواطن وصحافة المواطن من أكثر من زاوية، ويقدمون حججا وبراهين عديدة، لكن بغض النظر عن قوة المنطق الذى يعتمد عليه أنصار التمييز بين إعلام المواطن وصحافة المواطن، فإننى أميل لتأييد وجهة النظر التى لا تميز بين صحافة المواطن وإعلام المواطن، بالنظر إلى التحول فى مفاهيم الصحافة والإعلام والتداخل بينهما، وصعوبة التمييز بينهما، إضافة إلى احتمالات ظهور أشكال جديدة من الإعلام أو الصحافة.
وركزت المناقشات المبكرة التى دارت حول صحافة المواطن، باعتبارها بديلاً عن حارس البوابة الذى يفرض نفسه على وسائل الإعلام الأخرى، فى إشارة واضحة لما يتمتع به من حرية، وأكد فريق ثان من الباحثين على كونه إعلاماً مفتوح المصدر، واعتبره فريق ثالث الصحافة الشعبية الحقيقية، بينما أكد فريق رابع من الباحثين على أنه سيقدم محتوى مختلفا، عما هو سائد فى وسائل الإعلام التقليدية، سواء بالنسبة للأخبار أو الآراء أو التعليقات والصور والأحاديث.
ويمكن القول بوجود ثلاثة مداخل فى تبنى مفهوم صحافة المواطن: الأول،ظهر قبل ظهور الإنترنت ووسائل الإعلام الجديد، وتأثر بالمعطيات التاريخية والسياسية لدول أمريكا اللاتينية فى الثمانينيات، حيث كانت تعانى من أنظمة حكم عسكرية شمولية فاسدة، وتطلع شعوبها لممارسة الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وفى مقدمتها حق الاتصال، فى هذا الإطار ظهرت مساهمات أستاذة الإعلام الكولومبية الأصل كليمنسا رودريغيز Clemencia Rodriguez التى تعتبر أول من استخدم مفهوم إعلام المواطن عام 2001، لتصف به العمليات التى يقوم بها المواطنون للمشاركة فى مجتمعاتهم المحلية من خلال استخدام وسائل اتصال مستقلة تعتمد على الموارد المتاحة، وقد أجرت رودريغيز بحوثاً عديدة منذ عام 1984 على وسائل الإعلام البديلة ووسائل إعلام المواطنين فى سياقات دولية مختلفة من بينها نيكاراغوا وكولومبيا وإسبانيا، وشيلى، وبين المجتمعات اللاتينية فى الولايات المتحدة، وقد ركز العلماء على الخصوصيات المعقدة لهذه الأدوات التواصلية، ووجدوا أن وسائل الإعلام البديلة يمكن أن تلعب دوراً مهما فى تحقيق المشروع الديمقراطى، حيث يمكن لوسائل الإعلام البديلة تمكين الفئات المهمشة فى المجتمع والحد من عدم المساواة، وقد أظهرت المشاركة فى مشاريع وسائل الإعلام البديلة القدرة على تعزيز شعور الناس فى الحكم الذاتى وثقتهم فى إمكاناتهم الشخصية.
المدخل الثانى: ربط هذا المدخل بين إعلام المواطن وصحافة المواطن وبين صحافة المجتمع المدنى Civic Journalism التى ظهرت فى الولايات المتحدة الأمريكية فى أواخر الثمانينيات من القرن الماضى، كرد فعل طبيعى على الانتقادات الواسعة، لما تقوم به وسائل الإعلام من أدوار ووظائف تقليدية مثل نقل أخبار النخب، وطرح قضايا لا تهم المواطن العادى، وتغليب قيم الصراع والموضوعية فى التغطية الإخبارية عن قيم إشراك الجمهور، وحل مشاكل الناس والدفاع عن المظلومين، وتفعيل النقاش العام فى المجتمع وتحسين شروطه.
ومثل هذه الانتقادات لم تكن جديدة، إلا أنها اكتسبت زخماً وتأثيراً مضاعفاً مع تدنى نسب مشاركة المواطنين فى الانتخابات، وتراجع توزيع الصحف وانخفاض نسب مشاهدة البرامج الإخبارية، ومن ثم ظهرت تجارب كثيرة تحت مسمى صحافة المجتمع المدنى، لم تقتصر على الصحافة المطبوعة، بل اتسعت لتضم إليها محطات إذاعية كثيرة، وفى إطار صحافة المجتمع المدنى تراجع مفهوم الجمهور، وتصدر المشهد العام مفهوم المواطنة، حيث ارتبطت تجارب صحافة المجتمع المدنى بحركة عامة تدعو إلى استعادة وتفعيل مفهوم وأبعاد المواطنة، استناداً إلى فكرة هابرماس عن المجال العام وضرورة قيام وسائل الإعلام بتوسيع وتفعيل المجال العام كشرط لا غنى عنه لتشكل رأى عام حر، يشارك فى صياغته مواطنون أحرار، بعيداً عن كل أشكال القهر والاحتكار السياسى والإعلامى.
إن صحافة المجتمع المدنى، أو الإعلام بشكل عام، لا يقدم فقط الأخبار والمعلومات إلى المواطنين، بل يساعدهم على أداء دورهم كمواطنين ويدفعهم للمشاركة فى إنتاج الخطاب الإعلامى، وقد مارست صحيفة من كل خمس صحف يومية أمريكية شكلاً من أشكال صحافة المواطن واتخذت أشكالاً متنوعة، خاصة مع انتشار مواقع الإنترنت والمدونات وإذاعات الإنترنت، وعمدت بعض تجارب صحافة المجتمع المدنى إلى تغيير فى بعض المفاهيم التقليدية للصحافة والإذاعة ووظائفها وطريقة عملها، بحيث لا يقتصر دورها على تقديم الأخبار للناس بل تمكينهم من فهم الأخبار ومناقشتها، بل وأحياناً صناعتها، حيث اشترك بعض المواطنين فى تغطية بعض الأخبار وكتابة قصص إخبارية، واشترك آخرون فى العمل داخل صالة التحرير أو غرفة الأخبار فى محطات إذاعية محلية، كما ارتفعت نسبة مشاركة المواطنين فى بعض مواقع الإنترنت الإخبارية، واعتمدت كثير من الصحف على صور وموضوعات صحفية نشرت فى مدونات لمواطنين لم يسبق لهم احتراف أو ممارسة العمل الصحفى، ومع انتشار استخدامات الإنترنت وظهور وسائل الإعلام الجديد، كان من الطبيعى أن تتطور تجارب وممارسات صحافة المجتمع المدنى فى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وبعض الدول الأوروبية، وتدخل فى سياق تيار صحافة المواطن وإعلام المواطن.
المدخل الثالث: يربط هذا المدخل بين إعلام المواطن وبين مجتمع الشبكات فى عصر المعلومات بحسب الأطروحة الشهيرة لعالم الاجتماع الإسبانى الشهير مانويل كاستيل، الذى يرى أن الشبكة هى البنية الاجتماعية الجديدة لعصر المعلومات، عصر المجتمع الشبكى المكون من شبكات الإنتاج والقوة والتجربة، حيث تقوم هذه الشبكات بدورها فى بناء ثقافة افتراضية فى إطار التدفقات المعولمة، متجاوزة بذلك مفهومى الزمان والمكان، فقد حصل فى عصرنا هذا الاختراق الجارف للمجتمع الشبكى، ومقابل التشبيك المتعولم- الذى يعد الظاهرة الأبرز فى مجتمع المعرفة- تقف الذات التى تشير للهويات الفردية والجماعية، تحاول الحفاظ على حياتها.
واهتم كاستيل بالإعلام فى إطار المجتمع الشبكى، حيث تحدث عن المواطن الرقمى digital citizen، الذى يقاوم إعلام المؤسسات الكبرى، وتسمح له تكنولوجيا الاتصال والإنترنت بظهور الإعلام الشخصى mass- self communication، الذى ينقل سلطة الاتصال من مؤسسات الأخبار الكبرى «المؤسسات الإعلامية» إلى المواطن بشكل موحد وعبر العالم، فالشعور بالمحلية يتزايد وفى الوقت نفسه يتداخل مع العالمية، ونتيجة لذلك فإن الحدود بين المجتمعات المحلية والافتراضية والعالمية تصبح غير واضحة بشكل متزايد، من هنا تحدث كاستيل عن مواطن الشبكة، وخلص إلى أن صحافة المواطن تعيد هندسة المعلوماتية فى شبكة المجتمع، ومن ثم إعادة تشكيل السلطة وتوزيعها.
لكن يبدو أن كلام كاستيل يحتاج إلى مراجعة، فالممارسات العملية للصحافة عبر الإنترنت وصحافة المواطن تشير إلى عودة المؤسسات الكبيرة عابرة الجنسيات إلى الهيمنة، فعبر الشبكة كانت عمليات الاحتكار والدمج وتركيز الملكيات تصب فى مصلحة اللاعبين الكبار فيس بوك، وجوجل، وتويتر، هؤلاء العمالقة الثلاثة يهيمنون على سوق المحتوى والإعلان عبر العالم، كما يستغلون المحتوى الذى تنتجه الصحافة والإعلام التقليدى والجديد لصالحهم، والأخطر أن العمالقة الثلاثة والحكومات تقلص حرية الرأى والتعبير عبر الإنترنت، وتحاصر فضاء الإنترنت وتدجنه، فهل من حلول ومبادرات للحفاظ على استقلال وتنوع وحرية فضاء الإنترنت وحقوق المواطن على الشبكة؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة