أولا تهانى القلبية لأبنائنا وبناتنا الذين اجتازوا امتحان الثانوية العامة بنجاح، وأهلا ومرحبا بهم فى صرحنا الجامعى العريق، لاسيما من سيلحقون بنا فى كلية طب قصر العينى، وثانيا وبهذه المناسبة المصيرية الفريدة فى العمر أحببت أن أحكى لكم قصة واقعية عن طبيبة، فقد أعادتنى أجواء الثانوية العامة وذكريات مكتب التنسيق بعد حياة دراسية علمية عملية لسنين طويلة قضيتها كلها بين أروقة كلية طب قصر العينى الحبيب، بيتنا الثانى، إلى نوستالجيا ليلة ملء الرغبات، كنت متفوقة وكان مجموعى يسمح بدخول أى كلية ولم أكن أخش ألا يصيبنى الدور فى كلية طب قصر العينى التى كنت أرغب فى الالتحاق بها، وكان من الطبيعى أن ستأتينى أول رغبة أسجلها فى ورقة تحديد الرغبات، وقبل أن أسجل جاءت نصيحة والداى لى - رحمهما الله - على العكس من ذلك بأن اكتبى الاقتصاد والعلوم السياسية أو الحقوق مثلما، فعلا فقد كانا يريانى ذات موهبة فلسفية نقدية وتحليلية، إلى جانب ولعى بالقراءة والكتابة وشغفى بحضور صالونات النقاش والحوار السياسى التى كانت تعقد فى منزلنا مع الأصدقاء؛ الذين كانوا صفوة مصر ونخبتها - رحم الله من توفى ومتع الأحياء منهم بالصحة والعافية - والتى طالما شاركتهم إياها، وكثيرا ما أدليت بدلوى وكانوا جميعا سمَّاعين محبين لحديثى يأخذون برأيى كرأى ممثل للشباب، كان والداى فخورين بى ويريان فى قدرة على الشرح والجدل والإقناع على حداثة سنى؛ هما أرادا لى هذا النوع من الدراسة ليس إشفاقا علىّ من دراسة الطب الشاقة، فقد كانا يعلمان تمام العلم كم أنا جادة مجتهدة، ويتوقعون لى النجاح والتفوق أينما كنت، لكنهما أشفقا على موهبةٍ رأيننى فيها، ورأينها فى تذهب هدرا.
وحين أصررت على الطب قال لى والدى لك كامل الحرية وكلى ثقة فى قدرتك، ولكن أحب أن أقول لك يا ابنتى إن أهم من الكلية ونوعية الدراسة "التميز"، فيما ستفعلين فالتفوق فى أى مجال هدف وهو سر النجاح أما العاديون فما أكثرهم على وجه الأرض، وهم لا يصنعون التغيير، وأنا أراكى فى مكانٍ آخر، تركنى لاختيارى كما فعل والده معه؛ وقد كان نصحه بدخول القسم العلمى كى يتمكن من دراسة الطب إذ كان متفوقا ومن الأوائل ولكنه أحب الدراسة الأدبية، وفضل دراسة الحقوق وبعدها الاقتصاد، ونجح فى مجاله كما لم يكن قد يتسنى له فى مجال الطب، وكانت له بصمات فى التاريخ بسبب اختياره هذا.
المهم فى النهاية فعلت كما فعل هو فى ذات الموقف منذ نيفٍ وثلاثين عاما، وهو الفرق بين عمرينا، أصررت على الطب رغم إرادته وإرادة والدتى، ظنا منى أنها الدراسة الأجمل والعمل الأروع! الطب دراسة رائعة وشيقة، تفوقت فيها ولله الحمد حتى الأستاذية؛ آخر درجات السلم؛ وعلى جمالها وإمتاع ممارستها أدركت بعدما نضج فكرى أن الجمال كثير ولا حدود له، وأن العلوم الإنسانية غذاءٌ للعقل كى يكتمل منهجه ولا غنى للروح عنها وللنفس كى تكتمل لهما النيرڤانا، حتى إننى أحيانا أشعر بالندم أنى لم أهب لها حياتى، وأحسد من فعل وأغار ممن منحتهم ظروفهم فرصة التزيد، فتمنيت مثلا لو ألممت أكثر بالنظريات الاقتصادية، وتمنيت لو ألممت أكثر بالقوانين كلها الدولية وغير الدولية، وتمنيت لو استزدت أكثر من التاريخ ومن الشعر والأدب والفلسفة، الخلاصة تمنيت لو وهبت عمرا فوق عمرى لا شبع كل هذه الرغبات، كما تمنيت لو كان عندى الرد والحل والإجابة على كثير من تساؤلات ومشاكل نعيشها غير المشاكل الصحية أكثر منها خطراً وأبعد منها أثر.
أيها الأبناء الأعزاء نصيحة مخلصة، نصيحة عمر عن تجربة وخبرة الجمال حولكم منتشر فلا تقيدوه ولا تغلوه فتغلوا أنفسكم، فكروا مليا قبل أن تقرروا وتخيروا ما يوافق هواكم وميولكم فلا تقتلوها هدرا، ولا تجعلوا مجموعكم هو من يختار لكم كى تسعدوا وتنجحوا لأن فى كل علم سعادة، ولأن التميز فى أى منحى من مناحى الحياة هو ما يصنع التغيير والنجاح، فالنجاح ليس وقفا على تخصص دون آخر، ولا على مهنة أو حرفة دون أخرى، فحاجة الدنيا للزراعى المبتكر هى حاجة الدنيا للطبيب الماهر وفى كلٍ خير، وفقكم الله لحسن الاختيار.
• أستاذ بطب قصر العينى
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة