عمد نظام الرئيس التركى رجب طيب أردوغان لتكريس "ثقافة الخوف" فى ربوع تركيا فيما يضرب عرض الحائط باحتجاجات المثقفين سواء داخل بلاده أو خارجها.
وفى الذكرى السنوية الأولى لمحاولة الإطاحة بنظام أردوغان، والتى حلت أمس الأول السبت، أبدى العديد من المعلقين فى الصحف ووسائل الإعلام الدولية شعورا بالدهشة حيال إقدام هذا النظام على طرد الآلاف من رجال الشرطة والعاملين فى الدوائر الحكومية والسلك الأكاديمى.
ومنذ محاولة الانقلاب ضد نظام أردوغان فى الخامس عشر من شهر يوليو فى العام الماضى اعتقلت السلطات التركية نحو 50 ألف شخص وطردت أكثر من 100 ألف آخرين من وظائفهم، بينما يستمر الصراع الكبير بين تيارين يعبر كل منهما عن أفكار مختلفة كما يتجلى السؤال الكبير حول مستقبل الديمقراطية فى هذا البلد فى ضوء الصراع المستمر بين التيار الذى يقوده أردوغان والتيار المناوئ الذى يقوده الداعية والمفكر عبد الله جولن.
واذ طالب الرئيس التركى رجب طيب أردوغان الولايات المتحدة بتسليم المفكر فتح الله جولن مصرا على اتهامه بالتورط فى المحاولة الانقلابية التى جرت منذ أكثر من عام فإن هذه المحاولة الانقلابية تظهر مدى خطورة وحدة الصراع العقائدى وصدام الأفكار بين "تيار فى الإسلام السياسى ينتمى له أردوغان وتيار فى الإسلام الصوفى ينتمى له جولن" وهو صاحب نحو 60 كتابا حول التصوف والتراث والعولمة وأسئلة الحداثة وقضايا الحوار بين الأديان.
و"حركة الخدمة" التى أسسها فتح الله جولن والتى تدير عشرات المؤسسات الخيرية والتعليمية والإعلامية والدعوية والمصرفية داخل تركيا وخارجها لاتتفق مع مشروع أردوغان لتدشين "العثمانية الجديدة" كما أنها بنزعتها الصوفية التسامحية التى قد تعود لأفكار القطب الصوفى جلال الدين الرومى لا تقبل "النزعة العنفية الأردوغانية والتحالف مع جماعات العنف تحت شعارات الإسلام السياسى".
ويعد فتح الله جولن من مريدى العالم المسلم الكردى سعيد النورسى الشهير "ببديع الزمان النورسى" الذى قضى عام 1960 وكان من أبرز دعاة الإصلاح فى تركيا وقد تأثر جولن بأفكاره وطروحاته حول "التسامح والحوار".
وكان فتح الله جولن قد ندد فى بيان صدر بمناسبة الذكرى الأولى لمحاولة الإطاحة بأردوغان بالاضطهاد غير المسبوق الذى يتعرض له المنتمون "لحركة الخدمة" مؤكدا أن نظام أردوغان ضالع فى ممارسات للتعذيب فى السجون والمعتقلات.
وفيما تعلى حركة الخدمة من اعتبارات الوطنية التركية فى مواجهة طروحات الأممية العقائدية الأردوغانية"يطعن فتح الله جولن فى صدقية دعاوى الديمقراطية من جانب حزب العدالة والتنمية الحاكم معتبرا أن هذا الحزب يكرس فى الواقع لحكم الفرد كما يجسده رجب طيب أردوغان بينما تتحول "دولة القانون لمجرد سراب فى بلد يعانى من إشكاليات تتعلق بالهوية".
وإذ يصف نظام أردوغان حركة فتح الله جولن "بالكيان الموازى" واتهم هذا الكيان بمحاولة التغلغل فى المؤسستين العسكرية والقضائية رأى الباحث المشارك فى "المعهد الفرنسى للدراسات الأناضولية" جان ماركو أن نظام الحكم التركى "يمارس عمليات تطهير ممنهجة وجذرية".
ولئن كان الرئيس التركى رجب طيب أردوغان وصف المحاولة الانقلابية "بالعمل الفاشل ضد الديمقراطية" وأنها "إهانة للديمقراطية" فإن السؤال التلقائى والطبيعى لابد أن يكون حول حقيقة الديمقراطية فى ظل النظام الأردوغانى.
وفى الذكرى الأولى للمحاولة الانقلابية أثارت تصريحات عنيفة لأردوغان عن ضرورة "قطع رؤوس الضالعين فى هذه المحاولة" غضب الاتحاد الأوروبى باعتبارها لغة خطاب تتنافى مع احترام الديمقراطية وقيم ومبادئ الاتحاد الذى تطمح تركيا للانضمام إليه.
ويبدو أن اتهامات نظام أردوغان للحليف السابق فتح الله جولن الذى يقيم منذ سنوات فى بنسلفانيا بالولايات المتحدة بالتآمر والتورط فى المحاولة الانقلابية الأخيرة تعكس "ذهنية قوامها الدسائس والمكائد وتفكير نظام يثير حالة من الغموض وعدم الاستقرار".
واستغل أردوعان هذه المحاولة الانقلابية الفاشلة لتعزيز قبضة نظامه و"الدفع فى اتجاه إقامة نظام أوتوقراطى يرسخ حكم الفرد متدثرا بشعارات دينية " فيما أثارت هذه النزعة الاستبدادية تساؤلات مبررة حول إمكانية صبر الجيش "كمؤسسة حامية للدستور" على ممارسات نظام اردوغان والتى أفضت عمليا لانقسامات واضحة بين مؤسسات الدولة التركية.
ويسعى حزب العدالة والتنمية الحاكم "لفرض لون عقائدى واحد على هذه المؤسسات المرتبطة فى التاريخ التركى المعاصر بفكرة ومفاهيم الدولة الوطنية" وهى مفاهيم يبدو فتح الله جولن أقرب إليها من أردوغان.
وخلافا للأفكار التسامحية لفتح الله جولن والمستمدة من نبع ثقافته الصوفية ينزع رجب طيب أردوغان نحو ثقافة الأمجاد الإمبراطورية والفتوحات العسكرية للدولة العثمانية وهى نزعة تتجلى ثقافيا فى حرص نظامه على تشجيع الأعمال السينمائية والتلفزيونية التى تمجد تلك الحقبة ودعمها ماليا.
ومن الطريف ما لاحظه البعض حول استفادة رجب طيب أردوغان بشدة من مواقع التواصل الاجتماعى وتطبيقات انترنتية فى ساعات محنته إبان المحاولة الانقلابية وهو الذى أوعز من قبل لأدوات نظامه بممارسة كل ألوان التقييد والمضايقات ضد هذه المواقع والتطبيقات الإلكترونية فى توجه لا يمكن وصفه بأنه يخدم الديمقراطية التى يتشدق بدعاويها.
وإذا كان هذا الموقف المتعنت من قبل فى مواجهة مواقع التواصل الاجتماعى على الشبكة العنكبوتية يرجع لاتهامات بالفساد أطلقتها هذه المواقع فى حق أردوغان فإن الإجراءات التقييدية التى اتخذها نظام حكمه ضد هذه المواقع تشكل انتهاكا صريحا للحريات والحقوق الأساسية للمواطنين الأتراك ومن بينها الحق فى المعرفة فيما لايجوز إغفال أن الخطاب المعلن للمحاولة الانقلابية ركز على قضية استعادة الديمقراطية والحريات فى تركيا.
وخلافا لتصورات البعض حول إمكانية إقدام أردوغان على إجراءات ديمقراطية تسهم فى امتصاص الاحتقانات الظاهرة فى بلاده كما كشفتها المحاولة الانقلابية منذ أكثر من عام فلم يجانب الخبراء والمحللون فى الصحافة ووسائل الإعلام ومراكز الأبحاث الغربية الصواب عندما رجحوا اتجاه أردوغان المعروف "بنزعته الانتقامية" لمزيد من الإجراءات الأتوقراطية التى تنال من جوهر الديمقراطية.
وانتقد رئيس المفوضية الأوروبية جان يونكر إقدام نظام أردوغان على اعتقال نحو 150 صحفيا ودعا هذا النظام "لاحترام القيم الديمقراطية" بينما انتقد رجب أردوغان ماوصفه "بمماطلة الاتحاد الأوروبى فى منح عضويته لتركيا".
ولم يتردد أردوغان من قبل حتى فى منازلة مثقفين وأدباء فى الغرب مثل القاص الأمريكى باول اوستر الذى وصفه بأنه "شخص جاهل" بعد أن صرح اوستر صاحب "ثلاثية نيويورك" لصحيفة حريات التركية بأنه يرفض زيارة تركيا بسبب وجود سجناء ومعتقلين من الكتاب والصحفيين فى هذا البلد.
ولم يكترث أردوغان بحقيقة أن هذا القاص الأمريكى له شهرته فى تركيا ويعرفه المثقفون الأتراك الذين يتحدث بعضهم بإعجاب عن كتابه الأخير "دفاتر الشتاء" كما أن انتقاداته بشأن وجود أكثر من 100 كاتب وصحفى تركى خلف القضبان تجد آذانا صاغية سواء داخل تركيا أو خارجها.
ولم يخل هجوم أردوغان على هذا القاص الأمريكى من التهكم بقدر ما كشف عن انفعاله وغضبه عندما قال عن باول اوستر : "ومن الذى يهتم بزيارته لبلادنا أو يكترث بمجيئه أو عدم مجيئه؟!..هل ستفقد تركيا الشرف والفخر إن أحجم هذا الشخص عن زيارتها..أى رجل جاهل هذا؟!..بصراحة حضورك لن يشرفنا".
والقاص الأمريكى باول اوستر رد الهجوم الذى شنه رجب طيب اردوغان مؤكدا احتجاجه حيال القيود المفروضة على حرية التعبير فى تركيا فيما نقلت عنه جريدة الجارديان قوله إنه إذا كان هناك اكثر من100 كاتب سجناء فى هذا البلد فهو يشعر أيضا بالقلق حيال بعض القضايا التى لفقت لناشرين مستقلين مثل الناشر التركى رجب زاراكولو الذى اعتقل من قبل فى اسطنبول.
وكان اعتقال هذا الناشر التركى المستقل قد أثار موجة احتجاجات دولية فيما اقترح سبعة نواب فى البرلمان السويدى منحه جائزة نوبل للسلام وهو الاقتراح الذى حظى بتأييد الاتحاد الدولى للناشرين.
وليس استدعاء الأيام الخوالى فى أعمال المبدع التركى الكبير أورهان باموق، والذى يحق وصفه "بكاء الحزن التركى" إلا تعبيرا عن احتجاج على راهن الأيام وواقع يشهد صعود نظام حكم رجب طيب أردوغان وإحكام قبضته على الحريات!.
وها هو الكاتب الروائى التركى الكبير الحاصل على جائزة نوبل أورهان باموق يصدر رواية مؤخرا بعنوان :"غربة فى عقلي" وهو نص مداده الشجن ويكاد يكون مرثية لزمن اسطنبول الذى ذهب بلا عودة فيما حظيت الرواية بعد ترجمتها للانجليزية باهتمام كبير ومتابعات وقراءات نقدية فى كبريات صحف الغرب مثل نيويورك تايمز والجارديان.
والأمر قد لايكون بعيدا عن شعور باموق باشكالية الهوية فى بلاده التى تتجه فى ظل نظام رجب طيب اردوغان "للعثمانية الجديدة" وتبتعد "بطابعها السلطانى الأردوغاني" رويدا رويدا عن تراث الدولة المدنية.
ويدرك اورهان باموق الحاصل على جائزة نوبل فى الآداب عام 2006 حدة اشكالية الهوية فى بلاده متفقا مع وصفها بأنها "سفينة تبحر شرقا وعيون ركابها تحدق غربا" كما أنه يستشعر "مناخ الخوف" الذى أشاعه نظام رجب طيب أردوغان معتبرا أن "الديمقراطية الانتخابية" التى يتباهى بها أردوغان لم تحل دون انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وحرية التعبير.
ولاريب أن أحزان أورهان باموق لن تنحسر بعد المشهد الأخير فى الذكرى الأولى لمحاولة الإطاحة بنظام أردوغان فيما استغل هذا النظام تلك المحاولة لتعزيز قبضته الحديدية وهو الذى كان قد رأى أن الاحتجاجات التى شهدتها بلاده تؤذن ببدء انحسار هذا النظام.
ويختلف باموق بشدة مع دعم نظام رجب طيب أردوغان لما يعرف "بجماعات الإسلام السياسى" ومن نافلة القول إنه من أشد المناهضين للظاهرة الداعشية التى تصاعدت فى المشرق العربى مع الصعود الواضح لنظام أردوغان.
ولاريب أن كل المثقفين الشرفاء فى هذا العالم يقفون مع الشعب التركى فى مواجهة "سلطان الظلام وثقافة الخوف".. لن ينجح الظلام فى السيطرة على الزمن التركى مهما طال الليل!.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة