يرن الهاتف عصر الجمعة "أحمد ابن عمك ضاحى" مات، فيسبح التفكير فى بحور الأسباب.. "إزاى؟!"، فيأتى الرد سريعا: "مات فى الخدمة بالبدرشين"، وعندها تحولت الصدمة إلى "واقع" فأدركت أنه ضمن شهداء حادث "أبو صير" بالجيزة، الذى وقع صباح نفس اليوم عندما هاجم إرهابيون سيارة كان يستقلها الشهيد و2 من زملائه المجندين بالإضافة لأمينى شرطة ارتقوا معه شهداء.
قبَل جبين أخته، قبل أن يغادر بعد انتهاء إجازته، وأخبرها أن الموعد يوم "زفافها"، انحدرت دمعة من عين الأخت وكأنها كانت تدرك أنه اللقاء الأخير، طيب "أحمد" خاطرها وقال لها "خللى الفلو س دى معاكى.. علشان جهازك ومتقوليش أحمد إدانى علشان تقدرى تاخدى من أمك وأخوكى"، تركها ورحل لكنها ظلت تراقبه من بعيد حتى غاب عن ناظريها.
حياة الشهيد كانت "جهادا " على جبهتين، الأولى مدافعا عن بلده ضد الإرهاب الذى يخطط لجرها للخراب والدمار، والثانية كان فيها عونا لشقيقه الأكبر الذى قصم "المعمار" ظهره وأصابه بـ"انزلاق غضروفى" فى سن مبكرة، حيث كان يساعد أهله فى وقت بالعمل وقت إجازته ليجهز أخته "حنان" المقبلة على الزواج.
أيام متوالية و"أحمد"، يعد الساعات لحضور زفاف شقيقته، واعدا إياها بأن يزورها فى شقتها بالقاهرة بعد "نزوله الأجازة"، وبعدها بأيام اتصل بشقيقه، وأبلغه بحضوره السبت الموافق 15 يوليو، وكلفه بتجهيز إجراءات الخطوبة على ابنة عمه قبل انتهاء مهلة الإجازة والعودة للخدمة من جديد، لكن القدر كان ينسج قصة أخرى، فكان أسرع لتلبية نداء الوطن ولقاء ربه، عن عمر لم يتجاوز الـ21، ليخلف وراءه ميراثا كبيرا من القلوب المكلومة من ألم الفراق ووجع البعاد، لكن عزاءنا أن ما ينتظره عند ربه "جنة عرضها السموات والأرض".
حشود غفيرة ودموع تنهمر دون توقف ونساء يتشحن بالسوداء وأصوات الصراخ تخترق الصمت الذى خيم على قريتنا "نزلة إسطال" شمال محافظة المنيا، كان ذلك المشهد فى مدخل القرية وبعد ساعات، ظهرت سيارات الشرطة تحمل الشهيد "الملفوف بعلم مصر"، تزفه فى جنازة عسكرية، إلى مثواه الأخير وأصوات التكبير تعلو وتخالط دعوات المخلصين بالرحمة والغفران لشهيد مصر الحى.
تجلس بين النساء اللاتى أحطن بها تصرخ بأعلى صوتها "ابنى مات"، إنها أم الشهيد التى لا تعرف سوى أنها فقدت ابنها وفلذة كبدها، يحاول من حولها تثبيتها "افرحى دا شهيد"، لكن قلبها لا يقوى على أن يستمع، لتصير أنات "الأم المكلومة" لعنات تطارد من حرموها من ولدها إلى يوم يبعثون، وليضيفوا إلى قائمة كارهيهم أسرة جديدة من أبناء هذا الشعب العظيم.
تتوقف الأم "المكلومة"، عن الحديث بعد أن غلبها البكاء حتى أغمى عليها، وأفاقت بعد قليل، لكنها لم تستطع استكمال الحديث وظلت شاردة تنحدر دموع صامتة من عيونها، وهى تختلس النظر الى صورة الشهيد المعلقة دون أن تنطق بكلمة واحدة، ليكمل أخوه الأكبر "خلف" :" كان ابنى وأخويا وسندى فى الحياة وكنت هجوزه بعد ما يخلص جيشه، لكن ربنا عايز كده".
تتهاوى مشاعر الحزن على الفراق أمام عزيمة الأبطال، وينزوى الخوف إلى غير رجعة أمام "تضحيات" الشهداء، مات "أصغرنا".. لا بل هو اليوم "كبيرنا" ليسطر مع زملائه ملحمة جديدة فى البذل والعطاء والتضحية والفداء من أجل حفظ هذا الوطن الممتد بجذوره عبر التاريخ، وليكشف تآمر "المجرمين" لإسقاط مصر فى وحل ومستنقع سقطت فيه دول شقيقة يلعن مواطنوها "اللاجئون فى مشارق الأرض ومغاربها" ثورات لم يجنوا من ورائها سوى فراق الديار ودمار الأوطان.
قبل استشهاده بشهر، جلس ممدا قدميه على "الحصير" بين أصدقائه وأبناء عمومته الذين أحاطوا به، وبعد فترة من الصمت الذى تبعه خجل واضح على ملامحه ظهرت أمارات البهجة على وجه الشاب الأسمر ، هادئ الطبع، صادق النفس، وكأنه يرى أمام عينيه مشهد يوم أن تزفه مصر ملفوفا بعلمها إلى مثواه الأخير بمدافن القرية.
ارتقى الشهيد إلى ربه، لكن روحه فى انتظار القصاص من قاتليه، وحقه لن يعود إلا بتكاتف المصريين فى معركتهم الكبرى ضد الإرهاب، تلك المعركة التى سيكون النصر فى نهايتها للدولة المصرية "شعبًا ومؤسسات"، وستبقى مصر ، رغم كيد الكائدين وتآمر المتآمرين،"الوطن الواحد الكبير".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة