الحرية معنى نبيل وقيمة عظيمة لا تكتمل متطلبات استقرار الشخصية الإنسانية نفسيًّا ووجدانيًّا من دونها، ومن نعم الله عز وجل على البشر أن منحهم الحرية حتى فى اعتناق الأديان التى جاءت بها الرسل، يقول الله تعالى: «لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَىِّ»، ويقول أيضًا: «وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»، ولذا أمر الله بالحكمة والموعظة الحسنة فى الدعوة إليه، وجعل الإبلاغ دون إلزام بالاتباع هو نهاية مهام الرسل، فقال سبحانه: «ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى أَحْسَنُ»، وقال أيضًا: «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ».
وعليه، فقد قَبِلَ رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم، فى دولة المدينة بقاء القبائل اليهودية على معتقداتها دون إلزامهم باعتناق الإسلام، وعقد معهم معاهدات سلام ما نقض واحدة منها حتى نقضوها هم، ومن ثم أقر إسلامنا الحنيف مبدأ تأمين الأجانب فى بلادنا وحمايتهم دون نظر إلى اختلاف معتقداتهم، فقال عز وجل: «وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ».
والإنسان حر مخير فيما يفعله خيرًا كان أو شرًّا، غاية الأمر أن عليه تحمل نتيجة اختياره، فإن اختار فعل الخير أثيب عليه، وإن اختار الشر عوقب على فعله، ولا سلطان لبشر على الإنسان متى لم يضر غيره ولم ينتهك حرمة المجتمع بأفعاله. وهو حر فيما يحب ويكره، لكن دون أن يكون ذلك مدعاة للفُجر فى الخصومة أو سببًا فى ظلم الناس وسلبهم حقوقهم، ولذا لم يمنع بغض سيدنا عمر الفاروق لرجل كان قد قتل أخًا لسيدنا عمر وهو فى الجاهلية من أن يوفيه حقه؛ فقد جاء هذا الرجل إلى سيدنا عمر، رضى الله عنه، فقال له عمر: أأنت الذى قتلت زيدًا؟ قال: نعم. فقال له عمر: اغْرُب عن وجهى، فإنى لا أحبك حتى تحب الأرض الدم! فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، أَوَيَمْنَعُنى هذا حقى؟ قال: لا. فقال: أَيَحِلُّ هذا جَلد ظهرى؟ قال: لا. فقال الرجل: ما لى ولحبك، فإنما تأسى على الحب النساء!».
المرء إذًا حر فيما يختار، وليس لأحد أن يقيد تلك الحرية أو أن يجبر أحدًا على ما لا رغبة له فيه، لكن تلك الحرية الفردية التى أقرتها الشريعة الإسلامية وكفلتها للجميع حرية منضبطة بضوابط شرعية وعرفية تجعل منها حرية إيجابية وليست سلبية، فلا حرية مطلقة، بل هى حرية مقيدة تقف عند حدود حرية الآخرين، فتكون بذلك حرية إيجابية تنفع ولا تضر.
وهنا يبرز فهم خاطئ لدى كثير من الناس لمفهوم الحرية؛ فهناك فريق يضن بالحرية على غيره، فتجدهم يضيقون على الناس ويحدون من حرياتهم، وربما يتعقبونهم فى مواطن خصوصيتهم، فإذا تلفظ أحد فى مناسبة ما بكلمة وإن كانت غير صريحة لكنها مما يمكن أن يُحمل على إساءة أو تعريض بفرد أو مؤسسة ما، قامت الدنيا ولم تقعد، وتبارى من يصطادون فى الماء العكر فى تأويلها وحملها على ما يحقق مصالحهم ويتفق مع أهوائهم، فتكون النتيجة أن يقضى هذا «المسىء» بقية عمره أو جزءًا منه بعيدًا عن أسباب العطاء والنوال من ترقيات ومكافآت ونحوها، وربما قضاه حيث لا يراه الناس إلا من سبقوه إلى حيث زُجَّ به فيه! وهذا الحجر والتضييق على الحريات ترفضه الشرائع السماوية والأعراف الإنسانية والقوانين الوضعية التى وضعها من يضنون بالحريات أنفسهم!
وهناك فريق آخر يتوسع فى فهم الحرية، فيراها مطلقة عن القيود حتى إنه ليسوى بين اختياره للخير والشر، ولا يفرق بين كفر وإيمان، ولا بين طاعة ومعصية، ويجد نفسه حرًّا فى التنقل بين أقوال الفقهاء فى المسائل الخلافية، وحرًّا كذلك فى التعرض للآخرين متجاوزًا حدود النقد إلى الطعن والسب وتوجيه التهم بدعوى أن الناس أحرار فيما يفعلون وفيما يقولون، حتى إذا وجد المفترى عليه نفسه مضطرًّا لاستخدام حقه فى الحرية ليدفع عن نفسه، أنكروا عليه ذلك، فعليه أن يكون سمحًا واسع الصدر ولا يرد على من تعرض له وأصابه بأذى مادى أو معنوى، وإلا اتهموه بمصادرة حرية الآخرين والحجر على آرائهم!
وثمة فريق ثالث يرى أن الحرية تقتضى عدم التعرض لأى شخص بانتقاد أفعاله أو أقواله حتى ولو كان هذا الشخص فى موقع المسؤولية، فهو فى نظرهم حر فيما يفعل. وهذا أيضًا فهم خاطئ، فالمسؤول حر فيما يخصه هو، أما ما يتعلق بمقتضيات وظيفته، فللناس الحق فى توجيه النقد البناء له، وتذكيره بأن الناس يتضررون من نتيجة قراراته ويكشفون له عوارها، غاية الأمر أن عليهم الفصل بين أقواله وأفعاله، وشخصه وحياته.
والاستخدام الخاطئ لمفهوم الحرية الذى يتمثل فى السلوكيات المنفلتة بدعوى أن الحرية مطلقة، أشد خطورة من الحد من الحريات أو تقييدها؛ وذلك لأن الحد من الحريات قد يعود ضرره على شخص أو أشخاص معينين، أما الانفلات فى استخدام الحرية فيترتب عليه–فى غالب الأحوال، أن ينال الشخص الواحد من كثيرين، وربما ينال من مؤسسات وهيئات، بل من مجتمعات ودول، فتعم الفوضى وتتقطَّع العلاقات وينعدم الأمن ويتلاشى الاستقرار وينهار السلام النفسى والمجتمعى.
وعليه، ينبغى الاعتدال فى استخدام الحرية وفهمها على وجهها الصحيح، فلا إفراط ولا تفريط، وحرية الإنسان حدها عدم الإضرار بالآخرين. وهذا ما أكده مؤتمر الأزهر العالمى «الحرية والمواطنة.. التنوع والتكامل»؛ حيث تناول مفهوم الحرية وأطرها العامة وعلاقتها بالمواطنة والتعددية، مؤكدًا على ما سبق أن أعلنه الأزهر الشريف فى وثيقته للحريات الصادرة فى 2012م التى حددت العلاقة بين المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية ومنظومة الحريات الأساسية التى أجمعت عليها المواثيق الدولية، وأسفرت عنها التجربة الحضارية للشعب المصرى، على أساس ثابت من رعاية مقاصد الشريعة السمحة، وإدراك روح التشريع الدستورى الحديث، ومقتضيات التقدم المعرفى للإنسانية، فى جهد موصول يتسق فيه الخطاب الثقافى الرشيد مع الخطاب الدينى المستنير، ويتآلفان معًا فى نسق مستقبلى مثمر، تتحد فيه الأهداف والغايات.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة