اتصل بى الدكتور كمال الجنزورى، وفى صوته نبرة حزن، ليس بسبب شائعة وفاته، متعه الله بالصحة والعافية، ولكن بسبب قيام بعض الصحف والمواقع الإلكتورنية، بنشر الخبر دون تحقق، وأسرفت فى استعراض تاريخه، وأنه وزير الفقراء الغلابة، وهذا شىء جميل ولا يغضبه فى زمن التشويه والإنكار، وسبب غضبه استمرار نشر الخبر رغم قيامه بالنفى، وتأكيده أنه يعمل فى مكتبه، وتلقى أكثر من ألف اتصال تليفونى للاطمئنان عليه.
تمنيت له دوام العمر، واعتذرت عن تقصيرى فى التواصل معه، وأخذت رقم هاتفه، فقال لى مازحا: «هتتصل عشان تتأكد» فقلت: لا يا فندم، أمد الله فى عمرك، فنحن نسعد بك ونشرف بقامات كبيرة مثلك، وحقك علينا الاعتذار، ولكن شعرت بأن كلماتى لم تخفف حزنه، فليس معقولا ولا مقبولا أن يتكرر هذا الخبر أربع مرات، ولم أعرف لماذا الدكتور الجنزورى بالذات، واتصلت بصديقى نقيب الصحفيين الأستاذ عبدالمحسن سلامة، واقترحت باعتباره نقيبنا، أن يعتذر للدكتور الجنزورى نيابة عنا جميعا، حتى لو لم تكن الصحافة القومية متورطة فى نشر الشائعة.
المشكلة أبعد من الدكتور الجنزورى، ويعانى منها مشاهير وشخصيات عامة كثيرة، منهم مثلا الفنان الكبير يحيى الفخرانى، فقد جمعنى به إفطار فى رمضان الماضى، فى منزل السفير اليابانى، وتبادلنا حديثا جانبيا حول الشائعة المماثلة التى تناولته، وكان يتحدث بـ«قرف» واستنكار، فقد أعلنوا وفاته - أمد الله فى عمره - رغم أنه كان يقدم فى نفس الوقت مسرحيته الناجحة «ليلة من ألف ليلة» على المسرح القومى، ولم يحرك الفنان ساكنا ولم يخرج عن صمته ويعلق على الشائعة، ولكن خرج عدد من أصدقائه من داخل الوسط الفنى ليكذبوا الخبر، ويؤكدوا أنها شائعة سخيفة.
ولم يسلم آخرون، أبرزهم الرئيس مبارك، وعادل إمام، وصلاح السعدنى، وتنتشر الشائعة بسرعة البرق، ويتبادل المشاركون التعازى، واستعراض محاسن المتوفين الأحياء، وآخر كلمات قالوها وطعام تناولوه ووصيتهم، ويخترع من نسميهم «أبوالعريف»، حكايات شخصية وقصصا وهمية، لإظهار صداقتهم بالمتوفى، وتظل الكرة تجرى كالنار، حتى تتوقف وحدها، ولا يقدم مروجوها اعتذارا ولا ندما، ويكون السؤال: الدور على مين؟
الأعمار بيد الله، ولكن مؤلم جدا أن يقول عليك أحد أنك ميت، بينما أنت حى يرزق، ونحن بطبيعتنا نعتقد فى التفاؤل والتشاؤم، و«وشك حلو عليا وانت نحس»، فيصاب من تستهدفه الشائعة بألم نفسى رهيب، حتى لو حاول أن يظهر غير ذلك، علاوة على أسرته وأهله وأحبابه وأصدقائه، وتسمع كلمات مثل «بيفولوا عليه ليه»، ومن حقهم أن يثأروا من مطلق الشائعة، ولكن إذا بحثت عنه فلا تجده، فص ملح وداب.
وفقا لنظرية المؤامرة قد أرتاح لتفسير أن هناك تنظيم «تمويت» المشاهير، ويحدد شخصيات بعينها، يكرر إعلان وفاتها من فترة لأخرى، ويختار توقيتا ملتبسا لإعلان الوفاة، كأن يكون المستهدف فى زيارة لأحد المستشفيات، أو سافر سرا للخارج مرافقا لمريض، أو اختفى عن الظهور بعض الوقت، فتكون الأجواء مهيأة لإعلان وفاته الكاذبة، ونشرها فى أكبر صفحة فى العالم، وتنتشر كالصاروخ، فيس بوك وما أدراك ما فيس بوك.
فيس بوك عالم سرى وسحرى ومعلن وخفى، فيه أصدقاء معك طول الوقت، دون أن تقابلهم فى حياتك، أو تعرف هوياتهم وأشكالهم وملامحهم، فقد يكتشف البعض أن الحسناء التى تغازله، هى مجرد عجوز شمطاء أو رجل متخفى، وتحول فيس بوك من تجمع مفيد للربط بين مجموعة محدودة من الأصدقاء والمعارف، إلى تجمهرات عشوائية ترتكب أفعالا مشينة وأحيانا مؤثمة ومجرمة، ومستحيل أن تعرف مرتكبيها المتخفين وراء أسماء وهمية، وأصبح منصات إطلاق الشائعات والشتائم والقذف والسب والحروب القذرة، ليس العيب فيه ولكن فيمن يسيئون استخدامه.
بدأت شائعة وفاة الجنزورى بخبر صغير لشخص مجهول، وكالعادة «شير»، وكل واحد يضيف من ملكاته وعندياته، وتحولت الصفحات إلى سرادق كبير للعزاء، ولا ينشط أصدقاء فيس بوك ولا تتورد خدودهم، إلا بعد منتصف الليل ويحلو السهر، والليل والآيباد والبوستات، والحرية المحرومون منها فى النهار، مكانها فيس بوك بالليل، وفى أحسن الأحوال فشخص مثل الدكتور كمال الحنزورى، ليس له حساب فى فيس بوك، ولا يسهر أساسا حتى الفجر، ولا يتابع نشاط الأصدقاء الافتراضيين.
أم المشاكل أن فيس بوك أصبح مصدرا لأخبار الصحف والمواقع الإلكترونية، وأيضا برامج توك شو، وكثيرها ينقل عن صفحات مجهلة أخبارا دون التأكد من مصداقيتها، فيمنحها صكوك الثقة والتصديق، وانقلبت الآية وأصبحت الرأس تحت والأقدام فوق، وبدلا من أن يكون الإعلام المحترم مصدرا، أصبح تابعا غير رشيد، وفى واقعة الجنزورى أراد البعض ممارسة الذكاء الغبى، بإثارة علامات استفهام حائرة، مثل ما حقيقة وفاة الجنزورى، أو فشلنا فى التواصل معه، وغيرها لتبرير الكسل والفشل المهنى، الذى يحتم التأكد من الأخبار من مصادرها الحقيقية، وتعلمنا من أساتذتنا الكبار، أن السبق الكاذب انتحار مهنى.
الإعلام معناه أن أعلم الناس بالحقائق، وليس تضليلهم بالشائعات، وفيس بوك هدفه التواصل وليس التناحر، وبحثت عن معنى كلمة «صحفى» فى القاموس، فلم أجد لها معنى، سوى «شخص منسوب إلى صحيفة»، إذن إذا استقى الإعلامى أخباره من فيس بوك دون تحقق، فهو فيسبوكى وينتسب إليه، وليس إلى المهنة السامية، بأخلاقها وقواعدها ومصداقيتها.. وبعد ذلك تسألون: لماذا يكره الناس الإعلام؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة