فى حلبة المنافسة على كعكة الدراما الرمضانية الحالية، يبدو التميز واضحا جدا على مستوى الأداء التمثيلى الاستثنائى لـ"خالد النبوى ومنة شلبي"، فى تضافر جهدهما المذهل للوصول إلى حد الانسجام التام مع الإخراج فى اكتساحه المجالات التقنية بحرفية عالية، مع جودة التصوير والديكور سعيا نحو صناعة دهشة بصرية مغايرة، كما بدت لى فى مسلسل "واحة الغروب".
فقد أصابتنى متعة خاصة - ولعل جانبا كبيرا من تلك المتعة قد أصاب الجمهور- جراء سحر الصورة التى سجلتها كاميرا "كاملة أبو ذكري" بذكاء حاد ، وحساسية مرهفة قادتها بالضرورة إلى خلق لغة خاصة فى إعلاء شأن المضمون المستمد من "كتابة تنمو تحت وهج الصورة " لـ "مريم ناعوم" فى نصف الحلقات الأولى للمسلسل، وهو ما ولد شعورا بالمتعة من فرط عذوبة وبهاء صورة "أبو ذكري"، وكأنك تحدق بناظريك مليا فى لوحات تشكلية، تشبه روائع "فان خوخ"، ذلك العبقرى الذى تبدو فرشاته مثل فراشة جميلة، ذات أجنحة رقيقة تقترب من المصباح كثيرا فتحترق فى شغف يصل بمتعة المشاهدة إلى غاية الكمال والجمال .
تبدو الحلقات السبع الحلقات الأولى من "واحة الغروب"، والتى انتهى فيها "محمود عبدالظاهر" من رواسب ذاكرته المطاردة بشبح فشل الثورة العرابية، وحكايته مع زوجته الآيرلندية "كاترين"، ثم التجهيز لرحلة الذهاب إلى واحة سيوة، كأنها حكايات منفصلة تفتقد لرابط عضوى ، فكل فصل منها يبدأ وتكون له ذروة، ثم نعاود البدء من أسفل فى الحكاية الجديدة، وهى طريقة محفوفة بالمخاطر فى السرد على نحو الصحيح، وربما تسبب ذلك فى شعور الجمهور بالملل، ما كان يحتاج لكسر عمدى للأحداث بـ "فلاش باك" يمزج بين الأحداث لتوحى فى النهاية بالانسجام فى مسلسل غنى جدا بالأحداث والتصوير والديكور والمونتاج والموسيقى التصويرية الرائعة لـ "تامر كروان"، وغيرها من عناصر أخرى أثبتت أن "كاملة أبو ذكري" مخرجة لديها قدرة فائقة على التحكم فى قيادة فريق العمل، ليس فقط على مستوى "خالد النبوى ومنة شلبي" ، ولكن تبدو براعتها فى أن تظهر الشخصيات الثانوية بمتوسط أداء يخلو من أى شوائب عالقة، مثل "خالد كمال" الذى قدم دورا مغايرا للعديد من أدواره فى مسلسلات رمضان هذا العام - على قلة مساحة الدور – و"مهما نصار" فى دور الخادمة العشيقة، وكذلك الحال مع رؤساء "النبوي" فى سياق الدراما " وكذلك من جسدوا أدوار الإنجليز والطليان، وحتى زملائه ممن شاركوه المشاهد ولو بسطور قليلة.
نحن نتحدث عن مسلسل مأخوذ عن نص أدبى رفيع المستوى بحجم "بهاء طاهر" يتسم بالجودة وتعقيدات الشخصيات، ومنها على وجه الخصوص شخصية "محمود عبد الظاهر"، التى جسدها "خالد النبوي" ببراعة لافتة تضعه على قمة هرم الأداء الدرامى فى رمضان 2017 بلامنازع ، عندما بدت حركته طبيعية وساحرة، معبرا بشكل صادق إلى الحد الذى أمكنه من إيصال ما يريد إيصاله من أفكار وعواطف إلى المشاهدين, وخاصة العينان والفم اللذان لعبا دورا أساسيا فى تحريك المشاعر وإيصال المضمون, لا سيما العيون التى كانت لغة بحد ذاتها, تحمل فى جوانبها كل مايدور فى أعماق الشخصية، ومن ثم امتلك القدرة الموحية على التعبير عن شخصية البطل الذى لايبدو بطلا ، أو شجاعا، أو جبانا على طول الخط ، وليس شريرا مطلقا، رغم أنه يمكن أن يكذب أو يحجب معلومة، أو حقده الذى يعتريه أكثر من اللازم، ولقد نجح "النبوي" بأداء ارتجالى صعب فى أن يقدم "عبد الظاهر" بصدقية تامة، رغم أنه عنيف وغليظ فظ ، يحمل روح الدعابة أحيانا، أو أن يكون محبوبا، وكأنه فى أدائه يبدو تارة كحرباء تملك قدرة خرافية على تغيير جلدها، وتارة أخرى مثل ثعبان يتلوى داخل الأحداث بحذر لايوقعه فى حفرة أداء هيسترى صاخب يتسبب فى النشاذ، ولكن بتكنيك وحركات جديدة يقدمها لأول مرة، مؤكدا سلامة غريزته الدرامية كممثل موهوب ومحترف، كما بدا فى انعاكس أدائه على كل من حوله، ما جعله شريك أساسى مع "أبو ذكري" فى رفع مستوى الأداء للجميع.
تأمل معى جيدا الأداء الصوتى للنبوى فى الحلقة الثامنة، وهو يقول : "ها هو بستان الروح .. الصحراء .. جنة الأنبياء والشعراء .. إليها يفر كل من يترك الدنيا لكى يجد نفسه .. فيها تورق الأنفس الذابلة وتذهر الروح، ولكن لماذا لايحرك شيئا فى روحى هذا البستان الأصفر سوى الغضب .. صور تغزونى وتوقظ كل الماضى .. كل الأحياء ، وكل الراحلين".
هذه الكلمات تبدو فى ظاهرها تتأرجح بين الشعر والنثر، لكنها فى الباطن تحمل فى طياتها نظرة فلسفية عميقة، وبمسحة صوفية تخاطب الروح الحائرة فى ملكوت الصحراء وسط الكثبان والتلال والجبال العتيقة ، كما جاءت بنبرة صوت "النبوي" الموحية إلى حد البلاغة فى الأداء الصوتى بعذوبة متناهية، لا لكى تعكس معاناة "محمود عبد الظاهر" بطل الرواية فحسب، فى أثناء رحلة الذهاب الشاقة نحو واحة الغروب "سيوة"، بل تسجل تاريخا حيا من المرارة والألم فى ضياع حلم الوطن، وسط قيود اليأس القاتلة وجبرت المحتل الغاصب الذى كان يتحكم فى ظروف البلاد والعباد، كل ذلك جاء على إيقاع موسيقى "تامر كروان" وفى تواز دقيق على وقع أقدام الجمال وهى تخطو فوق رمال الأيام الصعبة، بينما الشمس الحارقة تؤكد قسوتها المعهودة وهى مصلوبة على رقاب الراحلين فى نهار عدائي، قبل أن تودع بقرصها القرمزى فى رحلتها الأخيرة خلف التلال، مخلفة ليل من الغربة التى تشقى لها الأنفس الذاهبة نحو عالم المجهول فى قادم "واحة الغروب".
يرى كثيرون أن إيقاع الأحداث فى المسلسل لايبدو سريعا أوبطيئا، ورجح البعض إنه كان مناسبا فى أول حلقتين حتى ظهور شخصية "كاترين" التى تسببت فى بطئه، ليس نتيجة بطء الأحداث التى كان سيرها فى مسار متذبذب إلى حد كبير، لكن اجتهاد منة شلبى فى تجسيد شخصية "كاترين" واضح جدا رغم تحديات الشخصية التى جعلت منها ضحية من خلال عكس شكل لغوى دقيق يبدو منطقيا، فضلا عن عملية الإقناع من جانبها بالكيمياء الرومانسية السريعة بينها وبين "خالد النبوي" حتى تصل لمرحلة الزواج، وربما طيفا من تباطئ الإيقاع كان من ضمن الأسباب السلبية فى أدائها بداية التعارف على ضابط يتمتع بقدر من الصلف، متعال ومليئ بالإحساس بالشفقة على نفسه، وإن كنت أتفق مع من رأوا أنها لم تظهر لنا سببا منطقيا لانجذابها لمحمود فى زيه الميري، رغم أن حالة من الارتياح بدت على وجه "محمود عبد الظاهر" فور علمه بأن "كاترين" أيرلندية وليست انجليزية، لكن المشهد طال لمدة تقترب من عشر دقائق، لكنها فور أن نطقت اسمه قائلة "ممود" أكدت على تسرب الحب رغم تلعثمها كثيرا، وتقلبها بين "الفصحى المكسرة والتهتهة"، وبالتالى كانت عكست طريقة كلامها ونطقها للحروف نوعا من ذلك السحر الرومانسى الذى يناسب الحالة التى يمكن أن نعتمد عليها فى الإقناع بالحب، رغم إطالة أمد المعاناة فى البحث عن كلمات مناسبة يمكن أن تقولها، ثم يقوم هو بتصحيحها، لكن مشهد نزول "كاترين" المياه داعية "محمود" للسباحة معها أفقد المصداقية فى هذا المشهد لأنه ظل مترددا طويلا قبل النزول.
مأخذ آخر حال حال دون اكتمال أداء "منة" برز فى المكياج غير الموفق إلى حد كبير، على مستوى لون شعر كاترين "الأورانج" ناهيك عن ظهور وجهها شاحبا تارة، ومخيف تارة أخرى، إلى حد عدم التعاطف معها على المستوى الرومانسي، فهى لاتبدو أحيانا فتاة جميلة بقدر ما تبدو شخصية مخيفة ومرعبة، رغم أن "منة" فى الأساس تحظى بقدر عال من الجمال والرقة التى تجعل منها أنثى مثيرة، ولهذا كله فقد حظيت بجماهيرة عالية جدا، معتمدة على الأداء بسحر خاص يمكن معه التغاطى عن المكياج ، بفضل تمتعها بجسم لدن ومتيقظ، وبعقل ذكى سريع الاستجابة.
وعلى درب الإجادة فى الأداء التى تحسب لكل فريق العمل، نخص الفنان القدير "أحمد كمال" فى دور "الشيخ يحيى" حيث أداه بعناية تشير إلى احترافية الممثل عندما يحلّق بالشخصية الدرامية فى آفاق الإبداع تجسيدا أو تشخيصا بجناحين هما "الكلمة والحركة"، فقد أثبت فى كل مشاهده إن الحركة هى المعادل المرئى للفظ حالة غياب الكلمة؛ بوصفها بديلا عن ذلك الغياب؛ فى الإفصاح عن دلالة ما ، عندما تنبع عن باعث ذاتى ، وإن التحريك هو المعادل المرئى للفظ ، حالة غياب الكلمة... هكذا تفيد الخبرة ، فتحية تقدير واحترام لكمال فى ذهابه الموسمى نحو عالم إبداعية مغايرة تضعه فى مصاف الكبار.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة