فى الظروف الاستثنائية لا بديل عن التكاتف، وفق هذا المنطق خاضت مصر كل حروبها الكبرى، ليس فقط على جبهة العسكرية والحرب بمعناها المباشر والاشتباك المسلح مع عدو، ولكن وفق المعنى الواسع للحرب، باعتبارها تحديا واشتباكا وسعيا لأهداف وغايات، ربما لهذا وقف المصريون بجانب الزعيم الراحل جمال عبد الناصر فى مرحلة اقتصادية وسياسية صعبة فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى، وتحملوا تحويل موارد الدولة لصالح المجهود الحربى وبناء الجيش عقب هزيمة يونيو 1967، ولم تسجل أقسام الشرطة أى حادثة سرقة أو تعدّ على منشأة أو مال خاص خلال ملحمة 6 أكتوبر 1973.
الآن تخوض مصر حربا أخرى على جبهة الاقتصاد والتنمية، فبسبب ميراث طويل من تجاهل الأزمات والمشكلات الاقتصادية، والتعامل بالمسكنات والحلول المرحلية، تفاقمت الأزمة ووصلت إلى حدود صعبة، على مستوى عجز الميزان التجارى وعجز ميزان المدفوعات وعجز الموازنة العامة وفاتورة الدعم والهيكل الضريبى للدولة، وكان لزاما على أى خطة للتحرك باتجاه إصلاح هذا الخلل، أن تكون مدعومة باصطفاف وطنى كالذى اصطفه المصريون بجانب ناصر فى الخمسينيات، أو القوات المسلحة فى السبعينيات، وهو ما لم يخلف المصريون الظنون فيه، مع بدء الحكومة خطة الإصلاح الاقتصادى قبل شهور، ليثبت الشعب أن هذا البلد يمكنه العبور بفضل "جدعنة المصريين".
مر قرابة عام على بدء مسيرة الإصلاح الاقتصادى والهيكلى للاقتصاد المصرى، والعمل على تلافى ثغرات المالية العامة والموازنة، التى يرى بعض الاقتصاديين والخبراء أنها تأخرت كثيرا، وبسبب هذا التأخر أصبحت تحتاج سياسات واضحة، وقرارات قوية، سعيا إلى الخروج السريع والسليم من عنق الزجاجة، والوصول لمنظومة اقتصادية قوية، وتحقيق معدلات نمو كبيرة، ووقف نزيف العملة الصعبة لدعم الجنيه أمام الدولار، لكن يا ترى ماذا لو لم تدخل مصر مرحلة الإصلاح الاقتصادى؟ وهل كنا نحتمل تأخر هذه الخطة الهيكلية للاقتصاد؟ وماذا جنت مصر من مسيرة الإصلاح؟
اتحاد الغرف التجارية: مصر أرض الفرص الواعدة.. وخطة الإصلاح تحقق الاستقرار الاقتصادى
الخطة الحكومية التى وضعها خبراء اقتصاد ومتخصصون فى المالية العامة وبناء الموازنات، تحتاج بالتأكيد لرجال الاقتصاد العمليين، ممن ينغمسون فى ماكينة الاقتصاد فى الأسواق، لتقديم رؤية عملية حية لها، إلى جانب الرؤى النظرية والأكاديمية، وفى هذا الإطار يقول أحمد الوكيل، رئيس الاتحاد العام للغرف التجارية، إن مصر أصبحت بحق أرض الفرص الواعدة للاستثمار، بفضل الإصلاحات الإدارية والتشريعية والاقتصادية الأخيرة، وعلى رأسها إصدار قانون للاستثمار، وتحرير سعر الصرف، وهما من القرارات المهمة التى تأخرت كثيرا، وجاءت مؤخرا عقب تحقيق الاستقرار السياسى والاقتصادى المشجع على بدء خطوات الإصلاح.
وأكد "الوكيل"، فى تصريح خاص لـ"اليوم السابع"، أن أحد أبرز أهداف القيادة المصرية الحالية، إنشاء مناخ جاذب للاستثمار المباشر، يتسم بالاستقرار والشفافية وتكافؤ الفرص، متابعا: "أصبح لدى مصر كثير من العوامل والمقومات المشجعة على الاستثمار، منها المناطق التجارية التى تعتمد سياسات جديدة كليا، تعزز فرص العمل والاستثمار، إضافة إلى تدشين عدد من المشروعات القومية الضخمة، مثل المنطقة الاقتصادية لقناة السويس والعاصمة الإدارية الجديدة، وامتلاك مصر سوقا ضخمة قوامها 90 مليون مواطن، فى واحد من أكثر مواقع العالم حيوية ونشاطا على مستوى حركة التجارة".
وأوضح رئيس الاتحاد العام للغرف التجارية، أن تحقيق الاستقرار الاقتصادى هو ما تسعى إليه مصر بعد نجاحها فى تحقيق الاستقرار وإنهاء خارطة الطريق السياسية، مضيفا أن البنية التحتية والقدرات الزراعية والصناعية لمصر كبيرة وجاذبة للاستثمار، كما أن مشاركة مصر فى تكتلات اقتصادية كبيرة، يجعلها بوابة لعبور التجارة من أوروبا إلى أفريقيا والعالم العربى وآسيا، وبالعكس فى سوق يتعدى قوامها 6.1 مليار نسمة، مشددا على أن التحدى الحقيقى الذى يواجهه الاقتصاد المصرى هو لعب الدور المنوط بمصر كنقطة التقاء طرق التجارة العالمية الجديدة، إذ تتمتع مصر بموقع جغرافى مميز، يجعلها معبرا حيويا ومهما بين الشمال والجنوب والشرق والغرب.
مستثمرون: قرارات الحكومة الإخيرة إيجابية للغاية وجاذبة للاستثمار
فى سياق متصل، يرى هانى قسيس، أحد أكبر المستثمرين فى القطاع الصناعى ووكيل المجلس التصديرى للبتروكيماويات، أن مصر شهدت خلال الأشهر الماضية تحركات اقتصادية إيجابية وفاعلة، وقرارات قوية وممتازة، وعلى رأسها مبادرة البنك المركزى بتخصيص 200 مليار جنيه لدعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وقرار وزير التجارة والصناعة بتنشيط المنتج المحلى ووضع ضوابط الاستيراد من الخارج، وهى قرارات حقيقية لتنشيط الاقتصاد الوطنى المصرى، فى إطار خطط الإصلاح الهيكلية لبنية الاقتصاد المصرى، التى بدأتها الحكومة منذ فترة.
وأضاف "قسيس"، فى تصريحات خاصة لـ"اليوم السابع"، أن المصنعين المصريين يرون أن القرارات الاقتصادية التى اتخذت الفترة الماضية تفتح شهية الاستثمار الوطنى، وأنا متفائل جدا لأننا منذ سنوات ننتظر هذه القرارات، وتهمنا هذه القرارات الجريئة وليس الحكومات، والاستثمار الوطنى المحلى هو الباقى للدولة.
وضمن رؤى المستثمرين ورجال الأعمال لخطة الإصلاح الاقتصادى، كشف هشام جزر، أحد المصنعين فى قطاع الجلود ووكيل المجلس التصديرى للجلود، أن المنظومة الاقتصادية كانت فى حاجة لمثل هذه القرارات المهمة، متابعا: "أرى أن أهم ما فى هذه القرارات هو تحرير سعر الصرف، لمواجهة تذبذب سعر الدولار فى السوق المصرية، ما كان يؤثر سلبا على القطاع الاقتصادى، حتى لو ارتفع سعر الدولار لمستوى 18 جنيها، لكنه لا يتغير كل ساعة كما كان فى السابق، وليست هناك الآن سوق سوداء تحرك القطاع".
خبير اقتصادى: وضع الموازنة والاقتصاد تحسن بسبب إجراءات الإصلاح الجادة
على صعيد الخبراء والمتخصصين، يرى الخبير الاقتصادى خالد الشافعى، أن أكبر دليل على تحسن وضع مصر الاقتصادى هو زيادة حجم الاحتياطى من النقد الأجنبى، الذى وصل مؤخرا إلى 30 مليار دولار، لافتا إلى أن تأخر خطوات الإصلاح الاقتصادى لمدى أكبر من هذا كان سيؤدى لكارثة، إذ ارتفع الدين العام مقتربا من 107% من إجمالى الناتج المحلى، وهو رقم كبير، وكان لا بد من اتخاذ إجراءات لعملية جدولة الديون وسدادها، ووصول الاحتياطى الأجنبى لـ15 مليار دولار، وهو ما يؤكد أن الاحتياطى الأجنبى كان يتآكل بشكل متواصل، لولا المسارعة باتخاذ خطوات الإصلاح الأخيرة بشكل جاد.
وأشار "الشافعى" فى تصريح خاص لـ"اليوم السابع"، إلى أن تلك الإصلاحات، سواء هيلكة أسعار الطاقة والكهرباء أو تحرير سعر الصرف، تصب كلها فى معالجة عجز الموازنة العامة فى مصر، الذى وصل لأرقام مرعبة، خاصة خلال السنوات الخمس الماضية، إذ سجل 9.8% من نسبة الناتج المحلى الإجمالى خلال العام المالى 2016/ 2017، مقابل 11.5% فى العام 2015/ 2016، وقُدّر العجز الكلى بمشروع الموازنة العامة للدولة للعام المالى 2016/ 2017 بنحو 319.46 مليار جنيه.
وتابع الخبير الاقتصادى خالد الشافعى تصريحه، مؤكدا أن عجز الموازنة العامة شهد تحسنا واضحا، بلغت قيمته 1.7% ضمن موازنة العام المالى 2016/ 2017، مشيرا إلى أن الفجوة بين الإيرادات والمصروفات تتزايد بصورة مستمرة، وكان لا بد من الوصول إلى حل للفجوة الكبيرة، مع اتخاذ مزيد من الإجراءات الجادة لترشيد الإنفاق العام.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة