تكرر هذا التوجيه الربانى القرآنى مرتين فى كتاب الله تعالى، وفى الموضعين يوجه المعاندين والمكذبين إلى سؤال من سبقهم من أهل الكتاب؛ لما لهم من علم قد يكشف عن وجه الحق فى المسائل الملتبسة.
وتحمل الآية جملة من المضامين الراقية، أهمها: فضل أهل العلم، وتعديلهم وتزكيتهم، ائتمنهم الله على وحيه وتنزيله، وأن السائل والجاهل يخرج من التبعة بمجرد السؤال.
ومنها: أن فى تخصيص السؤال بأهل الذكر والعلم نهى عن سؤال المعروف بالجهل وعدم العلم، ونهى له أن يتصدى لذلك.
وفيها دليل واضح على أن الاجتهاد لا يجب على جميع الناس؛ لأن الأمر بسؤال العلماء دليل على أن هناك أقوامًا فرضهم السؤال لا الاجتهاد، وهذا كما هو دلالة الشرع، فهو منطق العقل أيضًا، إذ لا يتصور أحد أن يكون جميع الناس مجتهدين.
وإذا سقنا القاعدة المشهورة بين يدى الآية وهى قول أهل العلم: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإن الآية تعم أشياء كثيرة فى حياتنا، ومنها:
أن الإنسان إذا نزلت به نازلة أو حلت به مشكلة، واحتاج إلى السؤال عنها فإنه يسأل عنها أقرب شخص له، دون أن ينظر لحاله من العلم؟ وبعض الناس يعتمد على المظاهر، فإذا رأى من سيماه الخير ظنّ أنه من أهل العلم الذين يستفتى مثلهم! وكل ذلك غلط بيّن، ومخالف لما دلت عليه هذه القاعدة المحكمة: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).
ولا أدرى لماذا لا يلجأ أحد هؤلاء حين يمرض إلى أى إنسان فى الشارع فيسأله؟ ولا فرق بين الصورتين.
ولا أدرى لماذا لا يسلم أحد هؤلاء إذا أصاب سيارته عطل أو تلف إلى أقرب من يمر به؟
وعلى هذا فإنه حين يطلب تجديد الخطاب الدينى فلا بد من اللجوء إلى أهله المتخصصين، لا إلى غيرهم.
وليس كل من يتكلم فى الدين عالم؛ فإن الناس بسبب ضعف إدراكهم، وقلة تمييزهم يظنون أن كلّ من يتحدث عن الإسلام عالم، ويمكن استفتاؤه فى مسائل الشرع! ولا يفرقون بين الداعية أو الخطيب وبين العالم الذى يعرف الأدلة، ومناطاتها، فظهر تبعًا لذلك ألوان من الفتاوى الشاذة، بل الغلط الذى لا يحتمل، ولا يُقْبَل، وكثر اتباع الهوى وتتبع الرخص من عامة الناس، فرقّت أديانهم، وضعفت عبوديتهم، بأسباب من أهمها فوضى الفتاوى.
وهذا ما يجعل الإنسان يفهم ويدرك جيدًا خوف العلماء الأثبات، رحمهم الله، فى شأن الفتوى وخطورتها، وهى نصوص ومواقف كثيرة، منها ما رواه ابن عبدالبر رحمه الله: أن رجلاً دخل على ربيعة بن عبدالرحمن شيخ الإمام مالك فوجده بيكى! فقال له: ما يبكيك؟ وارتاع لبكائه، فقال له: أمصيبة دخلت عليك؟ فقال: لا، ولكن استفتى من لا علم له! وظهر فى الإسلام أمر عظيم! قال ربيعة: ولبعض من يفتى ههنا أحق بالسجن من السراق.
والمقصود من هذا البيان الموجز: التنبيه على ضرورة تحرى الإنسان فى سؤاله، وألا يسأل إلا من تبرأ به الذمة، ومن هو أتقى وأعلم وأورع، فهؤلاء هم أهل الذكر حقًّا الذين نصت هذه القاعدة على وصفهم بهذا: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة