أحد أسباب مشاكلنا أن بعض المسؤولين والإعلاميين يبالغون كثيرًا فى تقدير قوة تأثير الإعلام، وذلك رغم أن بحوث الإعلام فى مصر والعالم تؤكد نسبية التأثير الإعلامى ونسبية دوره فى تشكيل الرأى العام. المعنى أن التأثير الإعلامى ليس هائلًا وإنما محدود، لأنه يحدث من خلال متغيرات كثيرة منها: حقيقية الموضوع الذى يعالجه الإعلام، وعلاقته بثقافة الجمهور وتعليمه ووعيه العام.
والقصد أن الإعلام مهما بلغت قدراته التكنولوجية والأموال التى ينفقها لا يصنع حقائق أو يغير واقعًا، كما لا يستطيع قلب الحقائق، بمعنى تحسين القبيح أو تشويه الجميل، والإساءة إلى إنجاز اقتصادى وسياسى يشعر به الناس ويتمتعون بمزاياه.
طبعًا هناك مصالح من وراء المبالغة فى تقدير قوة الإعلام، حيث يُحمّل بعض المسؤولين الإعلام المسؤولية عن الأخطاء أو بعض جوانب القصور، ويتحدث بعض الخبراء «الاستراتيجيون» بثقة الجهلاء عن المؤامرات الخارجية التى توظف الإعلام فى تدمير الوطن، وكيف أن الإعلام أصبح من وسائل ما يسمى بالجيل الخامس والسادس من الحروب، على الرغم من أن موضوع الآثار النفسية للإعلام فى أوقات الأزمات والحروب قُتل بحثًا، وثبت فيه بالقطع أن الإعلام دوره محدود، لأن كل طرف لديه وسائل إعلام يوظفها فى الحرب لصالحه، من أجل إثارة المخاوف أو نشر الشائعات ضد الطرف الآخر.
المفارقة أن بعض الإعلاميين يروجون لفكرة أو بالأحرى الوهم الكبير عن القوة السحرية للإعلام، لأن ذلك يعنى حصولهم على مكاسب ورواتب مرتفعة للغاية، لأنهم يَدّعون القدرة على صنع المستحيل لأصحاب المصالح فى المجتمع، وللأسف ينتقل وهم القوة السحرية للإعلام إلى أفراد الجمهور الذين يصدقون ما يقوله الخبراء وبعض الإعلاميين، كما يسخرون من فوضى وانفلات بعض البرامج التليفزيونية.
استخدمتُ تعبير وهم القوة السحرية للإعلام لأن بحوث التأثير الإعلامى تؤكد التأثير المحدود والنسبى للإعلام، وقد أشرت إلى ذلك فى مقالى الأسبوع الماضى، وأضيف، اليوم، أن هناك تقسيمات علمية شهيرة لتطور بحوث التأثير الإعلامى تؤكد على فرضية التأثير النسبى للإعلام، ففى عام 1920م تم تصميم بحوث وقياسات وطرق إحصائية لدراسة آثار الإعلام، وقد ساد الاعتقاد بالتأثير الضخم لوسائل الإعلام على الجمهور، أو ما يُعرف بنظرية الرصاصة السحرية The magic bullet theory، لكن عند نهاية العشرينيات تقلص الاعتقاد بصحة نظرية الرصاصة السحرية نتيجة اتساع نطاق البحوث الأمبيريقية عن تأثير وسائل الإعلام، كما شكلت الاختلافات الفردية والفئات الاجتماعية منظورًا جديدًا لدراسة التأثير الإعلامى بدأ يحل محل نظرية التأثير الهائل للإعلام.
وفى أواخر الثلاثينات والأربعينيات تأسس ما يعرف بالوظيفية الأمبيريقية فى بحوث التأثير الإعلامى، وظهرت فرضية التأثير المحدود للتأثير الإعلامى، ولم يعد الإعلام مجرد طلقة فى جمهور غير محدد، بل لم تعد هناك حاجة للقول بأن الإعلام أو الدعاية لا يمكن مقاومتهما، ودخلت الكثير من المتغيرات فى عملية تأثير وسائل الإعلام، فالمتلقى لم يعد هدفًا سلبيًا، بل على العكس فإن الجمهور يتسم بقدر من الوعى والاستقلال، ويستطيع أن يختار من بين وسائل الإعلام ومن بين المضامين التى تقدم إليه.
خلاصة القول ساد الاتجاه القائل بمحدودية التأثير الإعلامى ونسبيته، استنادًا إلى متغيرات فردية ومجتمعية تتعلق بكل جوانب العملية الاتصالية والأحداث المرتبطة بها، أو بصياغة كاتز «Katz»: «إن بعض أنواع الاتصال بالنسبة لبعض أنواع القضايا، التى تعرض تحت ظروف معينة على بعض أنواع من الناس، يمكن أن يكون لها بعض أنواع التأثير على هؤلاء الناس».
فى هذا الإطار أجريت بحوث مهمة حول التأثيرات طويلة المدى، وبحوث التأثير المقارن بين المجتمعات «البحوث عبر مجتمعية»، وكذلك بحوث المصداقية واللغة المستخدمة والرموز ودور القائمين بالاتصال، وطبيعة العمل داخل المؤسسات الإعلامية، وتأثير هذه المؤسسات فى المضمون الإعلامى، ووظيفة وسائل الإعلام فى وضع أولويات القضايا The agenda–setting function of mass media، وتأثير الإعلام فى التوعية والتعليم أثناء الحملات الانتخابية، فضلًا عن بحوث الاستخدامات والإشباعات، واختبار فرضية الفجوة المعرفية، واقترحت بحوث التأثير الإعلامى الاهتمام بالآثار المعرفية لا الآثار الإقناعية، والتمييز بين التعرض لوسائل الإعلام والانتباه للمضامين الإعلامية، حيث إن المتلقى قد يتعرض بحكم العادة لوسائل الإعلام دون أن يهتم بما تقدمه من أخبار عن الشؤون العامة.
ويرى «شيللر»، أحد أبرز ممثلى التيار النقدى، أن نموذج التأثير المحدود للإعلام ساد داخل الولايات المتحدة فى الستينيات، ومع ذلك ظهرت مجالات بحثية جديدة مثل الإعلام الدولى والإعلام التنموى، اعتمدت فكرة التأثير القوى للإعلام ودوره فى إحداث التنمية، وقد جرى تصدير الفكرة إلى الدول النامية، خاصة الشرق الأوسط، حيث قامت السياسة الأمريكية فى ذلك الوقت على محورين، الأول: وقف انتشار الاشتراكية أو تطبيق الحكومات لسياسة التدخل فى السوق. والثانى: دمج ما تبقى من العالم فى سوق اقتصادى دولى تهيمن عليه الولايات المتحدة.
وبالتالى كان هناك من وجهة نظرى ضرورة لاستدعاء وترويج فكرة التأثير الإعلامى الكبير، والتى تعززت بعد ظهور التليفزيون والإنترنت والسوشيال ميديا، لكن معظم أبحاث التأثير الإعلامى تنفى صحة التأثير الكبير والسحرى للإعلام، بل إن السوشيال ميديا، وما تتيحه من خيارات إعلامية ونوافذ متعددة أمام الجمهور، أكدت على تراجع التأثير الإعلامى لوسائل الإعلام التقليدية، وقوة المتلقى الحر أو العنيد، والقادر على الاختيار بل وصناعة المحتوى ونشره بحرية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة