منذ عدة أعوام وفي عهد مبارك زارني في منزلي ببوسطن أمين مجلس الوزراء المصري وهو شخصية مهذبة وخريج هارفرد، تناقشنا طويلا في مشكلة النظام الصحي في مصر. وقتها كانت الدولة تسعى لتطوير المنظومة الطبية في مصر واستعانت بمؤسسة ماكينزي للاستشارات لوضع تصور كامل للنظام الصحي.
كان اعتراضي أن ماكنزي أرادت لمصر تطبيق نظام تأميني خاص يشابه النظام الأمريكي وهو ما سعت الحكومة المصرية لتطبيقه وهو بإيجاز يشجع نقل النظام الصحي تدريجيا إلى القطاع الخاص من خلال شركات التأمين الخاصة مع استمرار الدولة في الدعم البسيط للمستشفيات الحكومية والتأمين الصحي للطبقات الفقيرة كما فعلت بعض دول الخليج. وكان رأى وقتها أن هذا النظام لا يصلح لمصر وقد أثبت فشله حتى في أمريكا نتيجة لتحكم شركات التأمين في المنظومة الصحية بأكملها وانعدام فرصة الطبقات الفقيرة في الحصول على خدمة طبية جيدة مع تنامي الطبقة الفقيرة في مصر وكان ذلك قبل تطبيق نظام أوباما والذي لم يصلح الخلل لاستمرار رفع الدولة يدها عن المنظومة الصحية وتسليمها للقطاع الخاص.
وحينما سألني عن رأى أجبت بأن الحل الأمثل لمصر هو تطبيق نظام صحي عادل ومتوازن كما هو مطبق في الدول الاشتراكية التي هي على شاكلتنا وضربت المثل بكوستاريكا في أمريكا الوسطي، التي نجحت في تطبيق أفضل النظم الطبية في الأمريكتَين وربما في العالم لدرجة سفر العديد من المرضى من الولايات المتحدة الأمريكية للعلاج أو إجراء الجراحات هناك.
قبل شرح النظام المطبق هناك أحب أن أوضح أن مصر كانت قد بدأت بالفعل في تقليص الإنفاق الطبي في المستشفيات الحكومية استعدادا للتحول للقطاع التأميني الخاص وقامت ثورتان ولم يحدث التحول المنشود وبقيت المنظومة الصحية في الجفاف التمويلي الذي أدى إلى التدهور الشديد في الخدمة الصحية في المستشفيات الحكومية وإن بقى إلى حد ما متماسكا في المستشفيات الجامعية والعسكرية لاختلاف مصدر تمويلها.
وهذا حاليا مرضنا الذى يحتاج إلى روشتة علاج:
١- مصر بها مجموعة من أفضل الأطباء في العالم من ذوي الخبرة العملية الممتازة (بالطبع بعد استثناء بعض الدجالين باسم الطب). ولكن هذه الكوكبة التى يجب أن نفتخر بها تعمل من خلال منظومة مهلهلة من الخدمات الطبية من التمريض إلى الطوارئ إلى التجهيزات الطبية. والدليل على ذلك هو نبوغ هؤلاء الأطباء عند سفرهم الى دول الخليج المجهزة للخدمة الطبية.
٢- عدد المستشفيات والأسرة في مصر لا يتعدى 1/50 من النسب العالمية
٣- نتيجة لنقص الإمكانيات والانفاق الصحي لم تستطع مصر مواكبة التطور التكنولوجي والتقني في الخدمة الطبية
٤- التمريض والخدمات الطبية المساعدة في ادني مستوى لعدم وجود خطة لتأهيل هذه الكوادر
٥- نتيجة للظروف الاقتصادية للأطباء تحولت الخدمة الطبية للعيادات الخاصة والمستشفيات المتناهية في الصغر والغير مؤهلة للخدمة الطبية
٦- المستشفيات الحكومية والجامعية لا تتبع منظومة صحية واحدة على خلاف معظم دول العالم
٧- نظام الأدوية والصيدليات في مصر هو ضرب من الهرجلة البعيدة عن الرقابة والتنظيم القانوني والمتابعة مع انفصالها عن المنظومة الطبية والاكتفاء بكونها دكاكين لبيع الأدوية
٨- كليات الطب مازالت تقبل أعدادا اكبر من طاقتها وقدرتها على التدريب رغم النقص النسبي لعدد الأطباء بالنسبة لتعداد السكان نتيجة لعدم التوسع في انشاء كليات طب جديدة.
٩- الخدمات الصحية بالأرياف والصعيد والمناطق الحدودية شبه منعدمة او متهالكة
١٠- الطب الموازي في نمو كبير مما يتيح فرصة للدجالين من خارج وداخل المنظومة الطبية للانتشار والتأثير حتى وصل بِنَا الحال للعلاج ببول الإبل والأوزون والأعشاب وأصابع الكفتة مما يثير الشفقة.
١١- انعدام الوعي الطبي لفشل الإعلام والتعليم ومنظمات المجتمع المدني والحكومي وغيرهم عن مد الشعب بالحد الأدنى من الثقافة الطبية.
١٢- الجهل التام بالنظام الغذائي الصحي الذي تسبب في انتشار السمنة والسكر وارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب، ويكفي أن نعرف أن مصر وباكستان هما أكثر دول العالم في استهلاك الزيوت المهدرجة trans fat والتي بدأت في الانقراض دوليا لخطورتها على أمراض القلب.
١٣- التلوث البيئي وسموم المبيدات الحشرية للمواد الغذائية والتي ساهمت في زيادة معدلات الإصابة بالسكر والسرطان والفشل الكلوي وارتفاع ضغط الدم.
١٤- ارتفاع تكلفة العلاج بما لايتناسب مع دخل الأفراد مع انضمام الطبقة المتوسطة إلى الطبقة الفقيرة تدريجيا.
١٥- انعدام نظام الكشف الدوري والرعاية الأولية وطبيب الـسرة كما هو مطبق في معظم دول العالم
١٦- انخفاض رواتب الأطباء في المستشفيات الحكومية لمستوى لا يمكن تصديقه مع انتشار ظاهرة اتهام الأطباء بالتقصير ـو التطاول عليهم او تحقير عملهم وهو ما لا يحدث في ـى من دول العالم.
للأسف هذا هو تشخيص المرض والذي وصل ‘لى مرحلة متقدمة لا يمكن معها التأخير أكثر من ذلك في العلاج وإلا نفق المريض ...فماذا فعل المعالج؟ أولا وضع في الدستورين السابق والحالي ضرورة زيادة الإنفاق الطبي والعدالة في تطبيق المنظومة الصحية كحق على الدولة لكل مواطن. وللأسف لم يطبق أى من ذلك حتى الآن، ثانيا توالي على وزارة الصحة وزراء ربما لا يعرفون تشخيص المرض أو هم من بلا كفاءة فلا توجد خطة واضحة حتى الآن لإصلاح أى من النقاط السابقة وكل ما يقوم به هؤلاء الوزراء هو زيارة بعض المستشفيات المتهالكة لإلقاء اللوم على الأطباء والإدارة وفصل العديد منهم أو إحالتهم للتحقيق! أو إلقاء اللوم على تدريب الأطباء أو تعليمهم الطبي وكأن الوزير من كوكب آخر!
يكفي أن أقول الآن إن مصر العظيمة لا تستحق هذه النوعية من الوزراء والمسئولين الذين يلعبون المباراة بلا خطة أو تأهيل او خبرة.. أو حتى معرفة أرض الملعب أو الفريق المنافس وكل ما ينتظرونه هو إضاعة الوقت حتى يأخذوا الكارت الأحمر والطرد من الملعب ليأتى غيرهم على نفس المنوال!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة