ما هى حقيقة التأثير الإعلامى على الفرد والمجتمع؟ شغل هذا السؤال ذا الطابع الإشكالى المعقد الباحثون والممارسون فى كل مجالات الإعلام، حيث ظهر كم كبير من الدراسات النظرية والميدانية التى تصدت لبحث حقيقة التأثير الإعلامى، ومدى قوته وحدوده فى ظل ظروف ومتغيرات عديدة كالتعليم والدخل والنوع والديانة والانتماء القومى وغيرها من المتغيرات.
فى هذا الإطار ظهرت عديد من النماذج والأطر النظرية مجال بحوث التأثير الإعلامى، والتى يعكس كل منها الأطر المجتمعية والثقافية والأيديولوجيات الكامنة والمعلنة التى وجهت هذه البحوث وأثرت فى توجهاتها، فضلًا عن الكشف عن مصادر تمويل تلك البحوث والعلاقات القوية التى ربطت بحوث التأثير الإعلامى بالإنفاق العسكرى والحرب الأيديولوجية والدعائية أثناء الحرب الباردة وما بعدها، وصولًا إلى تأثير التطور التكنولوجى على بحوث التأثير، خاصة بعد انتشار البث الفضائى المباشر والاندماج بين وسائل الإعلام والمعلومات وصناعات الاتصال والترفيه وانتشار الإنترنت وظهور وسائل الإعلام الجديدة New Media.
والفرضية الأولى التى أطرحها هنا هى أن معظم الأطر والنماذج النظرية الخاصة بإشكالية التأثير الإعلامى، على ما بينها من اختلافات وتناقضات، قد اعتمدت على بحوث ميدانية وتجريبية، واستخدمت تقريبًا نفس الإجراءات والأدوات المنهجية، الأمر الذى يثير أكثر من تساؤل حول مدى دقة وموضوعية المفاهيم والمسلمات النظرية التى انطلقت منها تلك البحوث من جهة، والإجراءات والأدوات البحثية من جهة ثانية.
أما الفرضية الثانية فهى أن صراع النماذج والأطر النظرية الخاصة بالتأثير الإعلامى قد عكس بقوة صراع القوى والمصالح الاجتماعية داخل المراكز الرأسمالية، وتحديدًا المجتمع الأمريكى، التى شهدت تطورًا كبيرًا فى آليات توظيف وسائل الإعلام لتحقيق أنواع من الهيمنة الناعمة على الرأى العام، وتزييف الوعى العام لصالح النخب الحاكمة والاحتكارات الاقتصادية الكبرى وفى مقدمتها الشركات الإعلامية متعددة الجنسيات والتى تعاظمت أدوارها محليًا ودوليًا فى ظل العولمة، ومثل هذه الأدوار ما كان لها أن تتم دون غطاء أيديولوجى يعتمد على نماذج ونظريات التأثير الإعلامى التى تدعى قوة الإعلام والإعلان عبر وسائل الإعلام فى ترويج وتسويق الأفكار والقيم والسلع والخدمات على حد سواء.
تجدر الإشارة إلى أن الاتصال الجماهيرى «الإعلام» كان مجالًا بحثيًا جديدًا أو وافدًا حديثًا استقبله باحثو العلوم الاجتماعية المختلفة فى العشرينيات من القرن الماضى، وتعاملوا معه استنادًا إلى ترسانتهم النظرية والمعرفية بما تحتويه من تحيزات معرفية وثقافية، بالإضافة إلى الاستسلام الكامل للوضعية الأمبريقية ومحاولة محاكاة العلوم الطبيعية، وكان من الطبيعى أن يتأثروا بها ويحذوا حذوها، من هنا تسربت، بشكل صريح أو ضمنى، مفاهيم ونماذج تلك العلوم إلى البناء النظرى أو العملى لعلم الإعلام. ويمكن القول إن المجال الجديد ومفاهيمه الأساسية ونظرياته قد خضع لتأثير أربعة نماذج إرشادية أساسية Paradigms هى النموذج المعرفى، ونموذج البنائية الوظيفية، ونموذج التفاعلية الرمزية، والنموذج الماركسى.
وفى هذه المرحلة التأسيسية لبحوث الإعلام جسدت عملية التأثير الإعلامى على الفرد والمجتمع أبرز انشغالات العلم الجديد، وأكثرها ارتباطًا بالمحاكاة التقليدية للعلوم الطبيعية، حيث بدأت بحوث التأثير باستعارة نماذج Models تبسيطية خطية، ونظريات سطحية أحادية الجانب فى شرح وتوصيف وتحليل عملية التأثير الإعلامى وقعت فى العشرينيات من القرن الماضى تحت تأثير أمرين مرتبطين: الأول: تكنولوجى يرتبط بظهور وانتشار الإذاعة، وقدرتها على الانتشار الواسع وتخطى حاجز الأمية والحدود السياسية، من هنا يربط البعض بين ظهور الإذاعة وظهور الإعلام كعلم ومجال بحثى جديد. الأمر الثانى: أيديولوجى يرتبط باستخدام الإذاعة، تلك الأداة الجديدة الأكثر انتشارًا وتأثيرًا، فى الدعاية السياسية والحروب الأيديولوجية والعسكرية فضلًا عن الإعلان والتسويق.
ويلاحظ شيللر بصدق أن بحوث الإعلام نشأت مع ظهور الإذاعة والحاجة إلى معرفة مدى تغطية الرسائل التجارية التى تنقلها الإذاعة للسوق ومدى تأثيرها فى جمهور عريض غير مرئى وغير محدد الهوية، ويستشهد شيللر برازارفيلد الذى يقول «إن الدراسات المتعلقة بالاستهلاك التجارى قد أسهمت بدور كبير فى تطوير مناهج القياس باستخدام العينات مما أدى إلى ظهور استفتاء «استطلاع» الرأى العام، وكان التطور الأكثر بروزًا بعد الإذاعة هو الصراع الدولى فى الثلاثينيات من القرن الماضى ثم الحرب العالمية الثانية التى شهدت توسعًا كبيرًا فى استخدام الإذاعة فى الدعاية والحرب النفسية، ومن ثم زيادة التمويل الحكومى لإجراء بحوث إعلاميه تأثرت بدون شك بمناخ الحرب، ويذكر لازرازفيلد «أن الحرب- يقصد الحرب العالمية الثانية- أدت إلى زيادة سريعة فى البحث الأمبيريقى الاجتماعى الذى يخدم الوكالات الحكومية، وأصبحت آراء الجنود ومعنويات السكان والتأثيرات الدعائية لجهود الحكومة موضوعات تحظى باهتمام كبير وقامت جماعة بحث متطورة للغاية، أكاديمية وتجارية بتنفيذ هذا العمل».
وبمراجعة بحوث الأربعينيات من القرن الماضى نجد أسماء عدد من باحثى الإعلام الذين أصبحت أبحاثهم والمفاهيم والنماذج والنظريات التى استخدموها أو النتائج التى توصلوا إليها علامات بارزة فى مسار تطور الإعلام كعلم، ومن أبرز هؤلاء «هوفلاند» الذى أشرف على برنامج بحثى عن استخدام الأفلام فى تدريب الجنود الأمريكيين وتكوين عقائدهم، و«كانترال» الذى أشرف على برنامج لدراسة معنويات المدنيين فى الولايات المتحدة أثناء الحرب العالمية الثانية. ومع الخمسينيات والستينيات وحتى اللحظة الراهنة استمر تأثر أبحاث الإعلام بالحرب الباردة، وبمحاولات الولايات المتحدة الهيمنة والانفراد بالنظام الدولى بعد انتهاء الحرب الباردة مرورًا بحرب الخليج ثم غزو أفغانستان والعراق.
على مستوى آخر هناك عوامل وقوى أخرى شاركت على المستوى الداخلى فى توجيه بحوث التأثير الإعلامى، وتمويلها، ومن ثم تحديد موضوعاتها أولوياتها واختياراتها المنهجية والنظرية، أهمها الحملات الانتخابية والصراعات السياسية والاجتماعية وظهور وانتشار التليفزيون والاحتكارات المرتبطة به جنبًا إلى جنب مع نمو صناعة الإعلان التليفزيونى وصناعة استطلاعات الرأى العام.
إن الطبيعة السياسية للإعلام كأداة للسيطرة الاجتماعية، إضافة إلى المؤثرات التى خضعت لها بحوث التأثير- الصراع الدولى وانتشار الإذاعة ثم التليفزيون وازدهار صناعة الإعلام والدعاية والإعلان- قد جعل من بحوث التأثير الإعلامى ساحة للاستقطاب والصراع الأيديولوجى والسياسى والمهنى الذى استخدمت فيه- وعبر المراحل المختلفة من تاريخ تطور هذه البحوث- مفاهيم ونظريات ومناهج وأدوات بحثيه مختلفة أحيانًا ومتماثلة فى كثير من الأحيان، وقد عكست هذه التحولات حالة الصراع وتوازن القوى على المستويين المحلى والدولى، كما أدت إلى عدم الاتفاق على نظرية للتأثير الإعلامى أو حتى مجرد الاتفاق على فرضية هل وسائل الإعلام قادرة على إحداث التأثير، وحدود هذا التأثير، وعلاقة هذا التأثير- بافتراض حدوثه- مع مجمل المتغيرات والعوامل الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والسياسية والثقافية المحيطة بالفرد والمجتمع.
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
الموضوعيه
الموضوعيه ..تعليق المشانق في كل محافظه