يتحدث بعض الناس بحقائق يمكنهم إقامة الحجج وتقديم الأدلة عليها، ومع ذلك ينفر المستمعون من خطابهم بدلًا من الاستجابة المنشودة التى تؤثر إيجابيًّا فى فكر المستمع وسلوكه، وما ذاك إلا لافتقاد المتحدث لطرائق فن التخاطب والتعامل مع الآخر، وعدم توفيقه فى انتقاء الوسيلة والألفاظ التى لا تؤذى المستمع ولا تؤثر سلبيًّا على الغاية التى هى الأهم بالنسبة للمتحدث من حديثه إلى الآخر، ولو كان بترك بعض الوسائل الصحيحة، فجميعنا يعلم ما كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين اعترض خصومه فى صلح الحديبية على وصفه بالرسول فى نص المعاهدة؛ حيث أملى رسولنا الكريم على سيدنا على - رضى الله عنه - قوله: «هذا ما قضى عليه محمد رسول الله»، فقال أحد الخصوم: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، بل اكتب: محمد بن عبد الله. فما كان من رسولنا الكريم إلا الاستجابة، على الرغم من عدم رضا صحابته رضوان الله عليهم.
وهذا الموقف الراقى فى فن التخاطب والتعامل مع الآخر المختلف دينًا وثقافة وعقيدة ينبغى أن يكون نموذجًا يحتذى ومنهجًا يتبع حتى لا تفشل المفاوضات والحوارات فى الجدل حول الوسائل على حساب الغايات، وقد كان لانتهاج هذا المنهج الراقى فى حسن الخطاب والتعامل مع الآخر أثره البالغ فى جعل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم موضع رعاية النجاشى ملك الحبشة وحمايته على غير ما أراده مَن أوغر صدر النجاشى على المسلمين بادعاء أنهم يشتمون عيسى وأمه عليهما السلام، فقال النجاشى: ما تقولون فى عيسى وأمه؟ فوفق الله جعفر بن أبى طالب فى عرض حقيقة الإسلام ونظرته للرسالات السماوية الأخرى وأصحابها مراعيًا الحال والمقام، فقرأ عليهم من سورة مريم، فلما أتى على ذِكر عيسى وأمه؛ رفع النجاشى بقَشَّة من سواكه قدر ما يقذِى العين، وقال: واللهِ ما زاد المسيح على ما تقولون نقيرًا، وأمَّنهم فى أرضه يقيمون فيها كأهلها، ولو أن جعفر بن أبى طالب ركز فى كلامه على ما يحلو لكثير من الدعاة ترديده فى موقف كهذا من هيمنة الإسلام على غيره، وأنه الحق وما عداه باطل... إلخ؛ لكان مصيرهم غير ما صاروا إليه، وأقله الطرد وفقد الملاذ الآمن الذى لجأوا إليه، فضلًا عن عدم دخول مَن دخل فى الإسلام وعلى رأسهم النجاشى نفسه، مع ضرورة الإشارة إلى عدم تفريط الصحابة فى شيء من ثوابت الإسلام وتعاليمه، فضلًا عن عدم تملقهم بهذا الموقف - وحاشاهم أن يفعلوا - للنجاشى وقومه، وإنما ذكروا حقائق، لكنهم اختاروا ما يلائم حال المخاطبين.
ولقد رأينا نماذج معاصرة استفادت من هذا المنهج فحققت نجاحات باهرة ووصلت إلى غاياتها المنشودة، وكان من أهم أسباب ذلك اختيار العبارات المناسبة وترك أخرى صحيحة، لكن غالب الظن أن المستمع يتأذى منها معنويًّا وربما تكون ذريعة لإيذائه ماديًّا فى مرحلة كثر فيها الاصطياد فى الماء العكر واتخاذ الدين مطية لتحقيق مآرب خاصة، ومن هذه النماذج ما تابعه العالم على الهواء مباشرة فى أثناء إجابة فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر على سؤال خلال زيارته التاريخية لألمانيا فى مارس 2016م؛ حيث سئل عن سبب إباحة زواج المسلم من اليهودية أو النصرانية فى حين أنه لا يجوز للمسلمة أن تتزوج من اتباع هاتين الديانتين السماويتين أو غيرهما، وهذا السؤال لو سئل الكثيرين فى المكان نفسه وبهذه الصورة المفاجئة لأجابوا بما هو حق، ولكن الأثر المترتب على «هذا الحق» سيكون تقوية لجدار الإسلاموفوبيا فى هذه المجتمعات؛ حيث إن غالب الظن أن تكون الإجابة بما يحلو لبعض الناس ترديده، وهو أن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، مستشهدين على ذلك بقول الله تعالى: «وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا»، وأن للرجل حق القوامة، فلا يجوز أن تكون لغير المسلم على المسلمة... إلخ. ولا شك أن نفوس المستمعين من غير المسلمين لن تكون فرحة مسرورة بهذه الإجابة التى تترك أثرًا سلبيًّا فى نفس متلقيها غير المسلم، بل إنها لن تكون مقنعة لأهل هذه المجتمعات الذين يقدمون العقل والمنطق على كل ما عداه وإن كان نصًّا مقدسًا، لكن شيخ الأزهر الخبير بفن الخطاب، المدرك للأسلوب الناجع فى التعامل مع الآخر، الحريص على الوصول للغاية المنشودة بالوسيلة المناسبة التى تتمثل فى اختيار أدق العبارات وأحسنها وقعًا فى نفس المتلقي؛ أجاب بثبات ويقين بأن مقصود الزواج هو السكن والمودة والرحمة بين الزوجين، وهى غايات مرجوة فى زواج المسلم من الكتابية (اليهودية أو النصرانية)، لكنها غير مرجوة بل إنها مفقودة فى زواج المسلمة من غير المسلم؛ وذلك لأن المسلم يؤمن برسول الكتابية، ويأمره دينه بتمكينها من أداء شعائر دينها، ولا يجيز له إكراهها على ترك معتقدها والدخول فى الإسلام، ومن ثم لا تشعر الزوجة الكتابية بضيق ولا تبرم من العيش فى كنف المسلم، بخلاف المسلمة إن تزوجت غير المسلم؛ لأنه لا يؤمن برسولها رسولًا له، ودينه لا يأمره بتمكين زوجته المسلمة من أداء شعائر دينها فى بيته، وقد لا يسمح لها بأداء شعائر دينها خارجه، ولذا فإن البغضاء والشقاق متوقعان فى اليوم الواحد مرات عديدة أقلها عدد الصلوات المفروضة، وحيث فُقدت المودة والسكينة المنشودة فى هذا الزواج، فتكون الحكمة كامنة فى منعه وللعلة ذاتها، ودليلًا على عدم التحيز للدين الذى ننتمى إليه، فقد منع الإسلام المسلم من الزواج بغير الكتابية كالمجوسية مثلًا؛ لأن الإسلام لا يعترف بمثل هذه العقائد، ولا يجيز للمسلم تمكين زوجته غير الكتابية من أداء طقوسها الباطلة كالسجود لصنم أو شمس أو نار أو نحو ذلك، ومن المؤكد فى مثل هذا الزواج أن تكون السكينة والمودة والرحمة مفقودة والبغضاء والشقاق والشحناء حاضرة، فاقتضت الحكمة منع هذا الزواج، والمدقق فى هذه العلة المانعة من زواج المسلم من غير الكتابية، ومن زواج المسلمة من غير المسلم، يجدها فى مصلحة غير المسلم وغير الكتابية؛ حيث فقدان المودة والسكينة والرحمة المقصودة من الزواج، وتلك لمحة إنسانية راقية فى شريعتنا الإسلامية السمحة.
وثمة مواطن أخرى يمكن أن ينفِّر فيها المتكلم مخاطبيه فى الوقت الذى يمكنه فيه استخدام خطاب ترغيبى جاذب دون تفريط منه فى ثوابت الدين، بل إن الخطاب الذى يراعى فيه المتكلم أحوال مستمعيه والمرحلة الدقيقة التى يمر بها المجتمع بل العالم كله، يجنى ثماره الدين والوطن جميعًا، وذلك من خلال تفويت الفرص على المغرضين والمتربصين وأصحاب الأهواء والمصالح الخاصة داخليًّا وخارجيًّا الذين يتذرعون بالدين لتقويض أمن المجتمعات وزعزعة استقرارها وتهديد نسيجها الوطني، ومن هذه المواطن إصرار بعض الناس على إطلاق لفظ النصارى على إخواننا المسيحيين على الرغم من أنهم لا يفضلون هذا اللفظ (النصارى)، وحيث إن كلا اللفظين حق لورودهما فى كتاب الله وسنة رسوله؛ فعلى المتحدث أن يستخدم اللفظ المحبب إلى المستمع، ولا يضر المتكلم ترك اللفظ الآخر لأنه لم يُفرض عليه استخدامه.
ومن فن التخاطب أيضًا مراعاة المتكلم حال المخاطبين، وعدم مخاطبتهم بما لا تطيق نفوسهم ولو كان حقًّا حتى يهيئهم لاستقباله، ولذا رأينا إسلامنا الحنيف يتدرج فى إقرار أركانه وأحكامه، ولم يؤمر رسولنا الكريم عندما أعلن للناس أنه مرسل من عند الله عز وجل بإلزام الناس بما نعرفه الآن من أركان إسلامنا وأحكامه جملة واحدة، فإنه لو فعل ذلك - مع أنه حق - لقضى على رسالة الإسلام فى مهدها، وما كان يتصور الصحابة أنهم بعد ما يقرب من ربع قرن من الزمان سيتحولون عما كانوا عليه فى الجاهلية من تقديس الأصنام والتعامل الربوى وارتكاب الفواحش وشرب الخمر، وغير ذلك من أعمال الجاهلية، إلى عبادة إله واحد وأداء أركان الإسلام من صلاة وصيام وزكاة وحج، وغيرها من تعاليم الإسلام، ولكن مراعاة النبى لحال الناس المرسل إليهم واستخدامه الوسيلة المناسبة وتدرجه فى الوصول للغاية المنشودة، أحدث أثره وآتى ثماره بدخول الناس فى دين الله أفواجًا، وتثبيت دعائم دولة قوية مستقرة فى المدينة من خلال ترسيخ حرية الاعتقاد وإرساء قيم العيش المشترك واحترام الآخر، يشهد على ذلك دستور المدينة الذى يعد أرقى وثيقة إنسانية عرفتها البشرية قديمًا وحديثًا، ولذا ينبغى أن تكون الحكمة ضالة المؤمن لا تضره وسيلة إدراكها متى كانت مشروعة، ولو كانت بترك غيرها من الوسائل التى تشاركها مشروعيتها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة