خالد عزب يكتب: أنت.. ضمير المخاطب فى السرد العربى

الأربعاء، 17 مايو 2017 09:00 م
خالد عزب يكتب: أنت.. ضمير المخاطب فى السرد العربى الدكتور خالد عزب

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
منذ أن نشأت حركة النقد الأدبى المعاصرة فى الوطن العربى وهناك اتجاهان، اتجاه يذهب إلى فصل أنواع الأدب العربى المعاصرة عن الأنواع القديمة واتجاه غرق فى الماضى دون الوصول لحاضر لكن صدر فى القاهرة كتاب قيم مثير عنوانه "أنت.. ضمير المخاطب فى السرد العربى" من تأليف الدكتور خيرى دومة الأستاذ فى جامعة القاهرة، هذا الكتاب يربط الماضى بالحاضر ومن هنا فهو يعد ثورة فى عالم النقد الأدبى بل يجعلنا نطلب من مؤلفه أن يحوله لمشروع بحثى يقدم من خلاله رؤية جديدة لتاريخ الأدب العربى وتطوره فعلى عكس شوقى ضيف فى موسعته لتاريخ الأدب العربى الشهيرة وكارل بروكلمان فى موسوعته عن الأدب العربى نرى خيرى دومه يتعرض لتظور النصوص الادبية وليس عرض النصوص فى تتابع زمنى فقط . بل نراه يحلل لنا كيف تطورت الأجناس المختلفة لتقنيات الحكى والسرد عبر العصور والتى ما زالت تلقى بظلالها الاى الن على أدبنا المعاصر، المؤلف انطلق فى كتابه من اتساع المساحة التى يحتلها السرد بضمير المخاطب على نحو لافت فى العقود الأخيرة، بحيث أصبحت "الأنت" جزءاً من القص، وليست مجرد "أنت" اتصالية بين الكاتب والقارئ.
 
أصبح كلام الراوى بضمير المخاطب تمثيلياً أو تقريرياً (خبرياً وليس إنشائياً اذا استخدمنا لغة البلاغة الكلاسيكية)، فهو يحكى القصة، ويرسم الشخوص، ويسرد الأحداث، ويصف الزمان والمكان والظروف مستخدماً ضمير المخاطب.
خيرى دومة انطلق فى كتابه من أبو حيان التوحيدى إلى طه حسين ونجيب محفوظ، وكأنه هنا يقدم لنا دراسة نوعية لتاريخ الأدب العربي، لكنها دراسة مختلفة عن كل من كارل بروكلمان وشوقى ضيف فى موسوعيتهما عن الأدب العربي، فكلاهما ركزا على تاريخ الأدب، بينما نرى لدى خيرى دومة دراسة عميقة لتطور النص الأدبي، فكأنه ينفذ بنا إلى عمق المعانى وبنية الجملة وسياقها، هذا ما يجعل على خيرى دومة عبء ضرورة استكمال مشروعه البحثى هذا، بكتابة أوسع وأشمل حول تطور النص الأدبى لدى العرب.
 
يرى خيرى دومة أنه فى تاريخ النثر العربى الممتد، كان كتاب "الإشارات الإلهية" لأبى حيان التوحيدي، وضع مميز، لأنه واحداً من أشهر وأطول النصوص التى استخدمت ضمير المخاطب حيث بدا الكتاب وكأنه بلورة لنوع من الأدب العربى لم يلق حظه من الدرس النقدي، ومثّل ذروة متقدمة لاستخدام الأنت، وفى اتجاه مخالف تماماً لما جرى عليه الحال فى كتب النثر العربى الأخرى، فالكتاب يبدو أقرب إلى ما فعله الكُتّاب الحداثيون وما بعد الحداثيين، الذين تعكس كتاباتهم انقساماً لا ينتهى على الذات، وإغراقاً فى مساءلتها ولومها وتفريعها والاحتجاج عليها.
 
يرى خيرى دومة أن التنويعات المختلفة لـ "أنت"، وما تستدعيه من ظلال جديدة فى كل مرة وما تتركه من آثار ملموسة على النصوص الأدبية، وما تضفيه من غموض وغرابة على عملية الاتصال الأدبى بين منتجى الأدب ومستهلكيه، كانت وراء الكثير من المساعى البحثية فى الموضوع، بدءاً من المسعى الأنثروبولوجى الذى ناقش علاقة هذا الضمير بمسألة "الشفاهية والكتابية"، المؤثرة فى تاريخ الثقافة البشرية عموماً والعربية خصوصاً، ومروراً بالمسعى اللغوى الحديث الذى ناقش دلالة الضمير النحوى "أنت" فى علاقته بالضمائر الأخرى فى سياق الاستخدام، أو فى الإطار التداولي، ثم المسعى السردى الذى ناقش دلالة الضمير السردى "أنت" وصعوده الملحوظ فى سرود تيار الوعى الذى فتح باباً لما يشبه الثورة فى السرد، وانتهاء بما آل إليه استخدام "الأنت" على يد الكُتّاب المعاصرين، وما أشار إليه استخدامهم من انتهاك لعالم القُرّاء، وما حمله من معانى العدوان والنقمة والسخرية والاحتجاج، كل هذا حسب ما ذكره خيرى دومة، يُضاف له حضور هذا الضمير من جديد فى سياق "الشفاهية الثانوية" و"النصوص التشعبية" التى تلعب فيها وسائل الاتصال الحديثة دوراً مربكاً وحاسماً بما يؤدى إلى انفجار الحديث الذى يوهم بالبوح والحوار وإمكانية التبادل أينما وليت وجهك، ولكنه فى رأى المؤلف لا يحقق شيئاً من ذلك.
 
لخيرى دومة عدد كبير من الملاحظات فى كتابه، تستحق أن نلتفت إليها، فهو يرى أن النص السردى العربى نص مفتوح، وربما لذلك، ظلت موسوعات الأدب العربى بما تنطوى عليه من أحاديث وأخبار قصيرة متعددة، صيغاً مفتوحة تنهض على الارتجال والتجميع والاستطراد، وتقبل الاضافة على يد الناقلين من التلاميذ والناسخين، لذا فى رأيه أنه ليس مصادفة أن يختلف مؤلفوا الأدب القدماء حول عدد مقامات بديع الزمان الهمذاني، ويلفت خير دومة انتباهنا إلى أن "الحديث المتصل" الذى تقطع به الليالي، وتستخلص منه العبرة، وتنقذ به الحياة، هو الفكرة الكامنة وراء "حكايات" ألف ليلة أو أحاديثها، لكن أحداً لم يعن بمصطلح "حديث" مع أنه المصطلح الأكثر تداولاً والأكثر خطورة فى رأيه فى كتاب ألف ليلة بكل طبعاته.
 
ويكشف خيرى دومه أنه فى ديباجة ألف ليلة وليلة التى طال اقتباسها هنا، يمكن للمرء أن يلاحظ شيئين أساسيين، أولاً: هذا الإلحاح على كلمة الحديث دون غيرها (بالتاء وليس الثاء)، ثانياً: ابتكار هذا المصطلح الذى لا نكاد نجد له مقابلاً فى الفصحى، وهو يعنى مصطلح حدوته، هنا يطرح المؤلف تساؤلاً: هل يمكن أن نفكر فى كلمات "حديث" و"حدوته" و"أحاديث" العامية هنا بعيداً عن كلمة "حديث" و"أحاديث" التى طالما استخدمها التراث العربى الفصيح فى سياق سردي؟
 
يُجيب خيرى دومة على هذا السؤال بأنه من المؤكد أن كلمة "حديث" انتقلت من الفصحى إلى العامية منذ زمن بعيد، وجرى عليها ما يجرى على الكلمات الفصيحة من التخفيف حين تنتقل إلى العامية، فتحولت الثاء إلى تاء، لكن فى رأى خيرى دومة أن التغيير الأكبر هو ما حدث من تغير فى دلالة الكلمة العامية، إذ يكاد معناها لا يتجاوز "الكلام والحكي"، أما معنى الجدة، ومعنى الحديث النبوى اللذين وجدناهما فى الكلمة الفصحى "حديث" فلا ظل لهما ولا أثر فى الكلمة العامية "حديت" وهو ينبهنا أيضاً أن العامية لم تكتفى بما تجريه على الكلمة من تغير صوتى أو دلالي، بل ترققها وتدللها، مبتدعة اصطلاحها القصصى الخاص "حدوته" الذى يبتعد بكلمة حديث عن معانيها القديمة خطوة أخرى، نهائية وحاسمة.
 
لكن دومة أيضاً يرى أن "ألف ليلة وليلة" لم تكن تنتمى فى سردها ولغتها بكاملها إلى العامية وحدها، أو الفصحى وحدها، بل كانت تمزج على الدوام بين مستويات متنوعة من اللغة والثقافة، بين تقاليد الرواية الشعبية الشفاهية التى تُعلى من شأن العامية، ولا تتورع عن استخدام الألفاظ المكشوفة، وتقاليد التدوين الرسمية التى تتدخل بالتعديل فى اتجاه الفصحى المهذبة، فظلت ألف ليلة وليلة كتاباً هجيناً متفرداً حتى فى لغته.
 
هنا فى الكتاب يقفز بنا المؤلف إلى طه حسين وضمير المخاطب فى الأدب المعاصر، فطه حسين يبقى مثالاً بارزاً على مخاطبة "القارئ" أو المستمع، بضمير المخاطب الصريح، سواء فى كتبه النقدية أو الابداعية، وهما متشابهان ومتداخلان، خصوصاً كتابيه القصصيين "المعذبون فى الأرض" و"ما وراء النهر"، حيث يمكن ملاحظة كيف يلعب الكاتب بمصطلح "القصة" ويوظفه توظيفاً دالاً بحيث نرى طه حسين يوظف مصطلح "الحديث" ويخلقه خلقاً جديداً واضعاً إياه فى مواجهة مصطلح "القصة" ويوظفه توظيفاً دالاً بحيث يصبح طه حسين: الراوى والمحدث بامتياز، ومن طه حسين ينتقل المؤلف إلى تلميذه يوسف إدريس، الذى يستخدم فى سرده الواقعى الجديد ما اسماه هو "فن الحديث"، ويرى خيرى دومة أنه حديث، ولكن بطريقته الخاصة تماماً عن طريقة أستاذه طه حسين، كان حديث يوسف ادريس إلى "قارئ" من نوع مختلف تماماً، كان حديثاً  خفياً ساحراً يعتمد على جذب القارئ وتشويقه وتنويمه كما قيل مغناطيسياً، ولكن دون مخاطبته على نحو مباشر، ودون ذكر للفظة "القارئ". كما يشد خيرى دومة للقارئ نحو عبقرى القصة القصيرة العربية الدكتور محمد المخزنجى الذى لم ينل قدره كمبدع فى هذا الحقل .









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة