يواصل الباحث محمد أحمد العيسى طرح السبب الحقيقى وراء التفوق الأمريكى، حيث يقول إنه على الرغم من الاهتمام بالتعليم حتى يومنا هذا، فإن الولايات المتحدة لا تُذكر فى الغالب بأنها متفوقة فى التعليم العام والأساسى، مع أنها تملك نظامًا تعليميًا ممتازًا، ومدارس تتوفر فيها جميع العناصر الضرورية لبناء الإنسان وتنشئته، علميًا وثقافيًا ومهنيًا، ولكن النظام التعليمى الأساسى يختلف من ولاية إلى ولاية، ومن منطقة تعليمية إلى منطقة، بحسب غنى أو فقر المنطقة والولاية، كما أن المناهج والمعلمين يختلفون من حيث كفاءتها وكفاءتهم، والمميزات التى يحصل عليها المعلمون تختلف باختلاف الإمكانات الاقتصادية فى الولاية أو المنطقة التعليمية أيضًا. وعلى سبيل المثال فنتائج طلاب الولايات المتحدة فى الاختبارات السنوية التى تجريها منظمة التنمية والتعاون الاقتصادى «OECD»، يحصلون فى الغالب على مستويات متوسطة.
والولايات المتحدة الأمريكية أيضًا لم تُعرف بتفوقها أو تميزها فى مجال التعليم الفنى والمهنى، بل إنه لا يُعرف لها نظام تعليمى بارز فى هذه المجالات كما هو موجود فى ألمانيا- على سبيل المثال- فى النظام التعليمى المزدوج «Dual System» الذى كان مثار إعجاب دول عديدة قلدته فيما بعد، وهو النظام الذى يتيح للطالب الالتحاق بمسار تعليمى مهنى ابتداءً من الصفين السادس والسابع، ويتيح له فى الوقت نفسه إكمال دراساته العليا فيما لو رغب فى ذلك. كما أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعرف نظام المؤهلات المهنية التى طبقته بريطانيا بكفاءة، وأصبح سمة من سمات نظامها التعليمى والتدريبى، الذى يتيح تقسيم مستويات المهن إلى خمسة أو ستة مستويات، ومن ثم يتم التأهيل العلمى والمهنى، حسب تصنيف المهنة المحدد فى المستوى.
وعلى الرغم من توفر العديد من معاهد التدريب العليا فى الولايات المتحدة، وتوفر مسار التدريب المهنى فى كليات المجتمع، وكليات التقنية التى بدأت بالظهور مؤخرًا، فإن هذه البرامج لم تأخذ هوية متماسكة لتعلن عن وجود مستوى متميز للتعليم المهنى والفنى يمد سوق العمل فى الولايات المتحدة الأمريكية بالأيدى الماهرة، بل إن معظم تلك المسارات يُنظر إليها على أنها تكملة لنظام التعليم العالى، وليس منفصلًا عنه كما هو الحال فى بعض الدول الأخرى. إذن فالولايات المتحدة لم تتفوق فى التعليم العام، ولا التعليم الفنى والمهنى، ولا فى مؤسسات التدريب المتخصصة، وإنما تفوقت فى نظام التعليم العالى، وأوجدت لها أنظمة وممارسات وتجارب أصبحت مثار إعجاب وتقليد من جميع دول العالم.
فى تقديرى أن التعليم العالى فى الولايات المتحدة كان واحدًا من أهم عوامل التفوق التى جعلت أمريكا تتبوأ مركز الصدارة، وتتربع على قمة الدول اقتصاديًا وعلميًا وثقافيًا، ومن ثم عسكريًا وسياسيًا. ونتحدث فى المقالات المقبلة، بإذن الله، عن أبرز سمات التعليم العالى فى الولايات المتحدة.. «من تقود العالم هى الولايات المتحدة الأمريكية، لدينا فهم واضح لذلك، والصين ليس لديها أى أفكار ولا تمتلك القدرات لتحدى الدور القيادى لها».. تصريح عندما تقرأه للمرة الأولى ربما تظنه آتيًا على لسان أحد أفراد الإدارة الأمريكية، أو أحد الصقور الأمريكيين المحافظين، أو حتى سيناتور ديمقراطى متحمس فى تكساس أو كاليفورنيا، لكن المثير للاهتمام أنه أتى على لسان «وانغ يانغ»، نائب رئيس مجلس الدولة «مجلس الوزراء»، أحد أرفع المسؤولين السياسيين الصينيين!
عندما قال و«انغ» ذلك فى خطابه أمام المنتدى الاقتصادى الأمريكى الصينى المشترك فى شيكاغو، تلقف السياسيون والمحللون الأمريكيون ما قاله بالكثير من الحذر، فبعد عامين من النوايا الصينية الواضحة لكسر الهيمنة الأمريكية فى آسيا، تمهيدًا لأخذ عباءة السوبر مان الأمريكى الذى يحكم العالم وارتدائها بدلًا منه، والتحركات التى صدقت على هذه النوايا، لم يبد ما قاله السيد «وانغ» يعبر عن التوجه الحقيقى لدولته، لكن أغلب هؤلاء المحللين يعلمون فعلًا أن ما قاله يحمل الكثير من الصحة فيما يخص شق قدرات الصين، وأن الولايات المتحدة الأمريكية ستبقى على العرش منطقيًا لمدة ليست بالقصيرة. هذا التقرير يشرح لك باختصار بعض مرتكزات القوة الأمريكية الحقيقية، بعيدًا عن القوة العسكرية، ويضعك على أول طريق إجابة سؤال «لماذا تستمر الولايات المتحدة على قمة العالم؟». فى منتصف العام الماضى خرجت أغلب وسائل الإعلام العالمية بعناوين ضخمة تصف التطور الذى حدث لأول مرة منذ أكثر من قرن، عندما تجاوز الاقتصاد الصينى الاقتصاد الأمريكى ليصبح أول أكبر اقتصاد فى العالم بموجب قوة التعادل الشرائية Purchasing Power Parity، المعروفة بالاختصار الشهير «PPP».. تسلقت الصين للمركز الأول باقتصاد يكافئ 17.632 تريليون دولار، مقابل 17.416 تريليون للولايات المتحدة الأمريكية بتفوق يساوى %1.2. وغدًا نواصل إن شاء الله.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة