المذيع الأشهر بالقناة العربية يكذب على الشاشة ويزور تصريحاً لوزير الخارجية الإسرائيلى ضد مصر
فى عام 1920، قرر أدولف هتلر، الذى لم يكن تجاوز الحادية والثلاثين من عمره بعد، الانضمام لحزب العمال الاشتراكى الوطنى، ومنذ اللحظة الأولى وجد معارضة كبيرة لوجوده، كان جوزيف جوبلز أحد أفرادها، وتضخمت المعارضة مع محاولته الانقلاب على قيادة الحزب فى 1923، ولكن واقع الأرض والساحة السياسية الألمانية كانا مختلفين بدرجة كبيرة، وكانت الشواهد كلها تشير لتشكل صورة جديدة ومغايرة، فمن محاولة الانقلاب الفاشلة، ومن كاريزما «هتلر» وتبنيه لخطاب القومية الألمانية وسيادة العرق الآرى ومعاداة الشيوعية، وسط أزمة اقتصادية خانقة وتوابع هزيمة فادحة فى الحرب العالمية الأولى، استمال آلاف الألمان لصفه، ووصل الأمر فى وقت لاحق لفوزه بدعم «جوبلز» نفسه.
نجح الشاب الألمانى ذو الميول القومية الجارفة فى استعمار دماغ جوزيف جوبلز، السياسى والكاتب والصحفى والروائى والسيناريست، الاستعمار بمعناه الكولونيالى الاحتلالى، وليس بمعناه اللغوى كمصدر للتعمير والتنمية والتحديث، فكان «جوبلز» أداة طيعة فى يد «هتلر» وماكينة فعالة لبلورة مشروعه، وإنتاج آليات عملية فاعلة لتسويقه وإقناع الألمان به، وفى سنوات عديدة أصبح «هتلر» زعيمًا محاطًا بشعبية جارفة، بفضل أفكار «جوبلز» وخططه الإعلامية، وكل الفارق بين مرحلة معارضته لانضمام الزعيم الجديد لحزب العمال، ومرحلة تبنيه لخطابه والترويج له، هو الإيمان المتولد عن الاستعمار أو الاحتلال الذهنى، ووفق هذا المنطق الإيمانى صاغ وزير الدعاية السياسية فيما بعد، مشروعه الإعلامى وخططه ونظرياته فى حقل السيطرة على الجماهير وتوجيهها، منتزعًا إيمانهم باستعمار أدمغتهم، عبر خطط وأفكار وتحركات وصور ومحتوى وأخبار وتعليقات وتحليلات ومتابعات وأفلام وأشرطة وثائقية معدّة بعناية، ووفق منطق التحرير الصحفى على مذهب الاستعمار، الذى دشنه الزعيم، فقد نجح «هتلر» فى استعمار أدمغة معارضيه، وآمن «جوبلز» لاحقًا بأن استعمار الأدمغة هو المدخل الأقوى والأهم فى صناعة رأى عام وتوجيهه صوب غاية محددة سلفًا، حتى ولو لم تكن على هوى الجماهير نفسها.
من استعمار جوبلز إلى صحافة «DW»
استعمار «هتلر» للأدمغة أنتج تحريرًا صحفيًا مستعمرًا، يتكئ على سياسات إعلامية رمادية، وعلى آليات محكمة ومتتابعة من تدفق المعلومات والصور والأخبار، بما ييسر غسيل العقول وإعادة تعبئتها بمواقف وانحيازات مغايرة، عبر بوابة الشحن العاطفى والتضخيم، واللعب على وتر القضايا الساخنة والعنصرية، واستغلال انحياز الإنسان الفطرى لجغرافيته وجماعته البشرية، ومن هذا التحرير الملون والاستعمارى وضع «جوبلز» خريطته للحملة الدعائية لـ«هتلر» فى الانتخابات التشريعية الألمانية سنة 1933، وكانت أبرز حيله فى تضليل الجماهير واستمالتها، النفخ فى بالونة الزعامة حتى امتلائها لآخرها، ووضع هذه البالونة فى الكفة المقابلة للأوضاع الاقتصادية والسياسية المأزومة، لترى الحشود المشحونة والمغرر بها عاطفيًا، ميزان الأوضاع مائلًا بقوة فى جانب واحد، وسعيًا لهذا التأثير ابتكر السياسى الألمانى الداهية طريقة جديدة لاستعمار أدمغة الناس، وتحرير محتوى تواصلى جياش ومعبأ بالانفعالات الوجدانية العارية من التصور العقلى، فوضع «هتلر» فى طائرة تجارية ضخمة، طافت أجواء ألمانيا خلال فترة الإعداد للانتخابات، وهبطت فى 100 قرية تتوزع على أماكن عديدة من خريطة الدولة، مخترعًا للجولة شعارًا بالغ التأثير والتضليل فى آن، وهو «القائد فوق ألمانيا»، صانعًا صورة مقابلة لتردى الأوضاع وشظف العيش واختلال مركز ألمانيا وقيمتها عالميًا، تبشر بقائد قادر ومسيطر وممتلك لأجواء البلاد وقابل على إنقاذها من أزمتها الاقتصادية، وإطلاق الطائرات فى سمائها المقيدة، ليهبط «هتلر» من الطائرة فى كل محطة وكأنه يد العناية الإلهية التى تربت على أكتاف الناس وتعدهم بتجاوز المعاناة، ثم يعود إلى السماء كملاك رأى وسمع وذهب ليوصل الرسالة، وهكذا احتل «جوبلز» أدمغة الألمان بالإعلام الاستعمارى، وقاد «هتلر» إلى منصب المستشارية والزعامة الفعلية للبلاد.
كانت تجربة هتلر وجوبلز تجربة استعمار لألمانيا ومواطنيها أكثر منها تجربة استعمار للعالم، أو تجربة سياسية وطنية، فقد تعاملت مع العقول كمناطق نفوذ جغرافية، وحدائق خلفية، ومستعمرات متاحة للغزو ودك حصونها، ومن هذا المنطلق الهتلرى الذى استعمر به الزعيم الجديد دماغ «جوبلز»، واستعمر به الأخير أدمغة الألمان، انطلقت «دويتش فيله» منذ تأسيسها، وهى التى خرجت من رحم الهزيمة محملة بأفكار القومية الألمانية والتفوق العرقى وعداء العالم بأكمله، ممتزجة بالخسارة والانكسار والشروط المهينة من الخصوم، ومستندة إلى كوادر وعناصر إعلامية تربت فى مدرسة وزارة الدعاية السياسية التابعة لحزب العمال الاشتراكى، فصاغت المؤسسة الإعلامية الألمانية مدونة أداء مهنى وتحرير صحفى تقوم على فلسفة احتلال الأدمغة، وتحرير المحتوى على مذهب الاستعمار، وبدلًا من غسل أيدى ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية، عملت على غسل عقول من عانوا من النظام الألمانى السابق على وجودها، واستهدفت بشكل خاص المنطقة العربية، ربما باعتبار أنها كانت مسرحًا لهزيمة مدوية لألمانيا، إضافة إلى أنها لم تكن خصمًا مباشرًا كما هو الحال فى أوروبا وأمريكا وشرق آسيا، ومن ثمّ فإنها مساحة لعب مفتوحة ولا تشملها محاذير دول الحلفاء والقوى العالمية الجديدة وخطوطها الحمراء، لهذا أسست «دويتش فيله» القسم العربى فى عام 1959، بعد ستّ سنوات فقط من انطلاقتها بعدد من اللغات الأوروبية، ليكون أول امتداد لها خارج القارة العجوز.
كتائب «دويتش فيله» فى ساحات العرب
بدأت فكرة «الموجة الألمانية»، أو الإذاعة الرسمية الموجهة للحديث باسم ألمانيا، فى سنة 1950، ولكنها دخلت حيز التنفيذ فعليًا فى 1953 بالبث لمدة ثلاث ساعات يوميًا باللغة الألمانية، مصحوبة بالترجمة لبعض البرامج والمحتوى المعروض، وفى 1954 بدأت أقسام الإنجليزى والفرنسى والإسبانى والبرتغالى، ببرامج لمدة 5 دقائق فقط آنذاك، ولكن فى 1959 بدأ القسم العربى بمساحات بث واسعة وتغطية شاملة لكل الأمور المتصلة بالمنطقة العربية، ودولها المؤثرة بشكل خاص، ووظفت المؤسسة صحفيين ومحررين من عدة دول عربية، أبرزها مصر وسوريا والعراق والجزائر ولبنان وفلسطين والمغرب واليمن، إضافة إلى بعض الألمان المتخصصين فى اللغة العربية والثقافة الإسلامية، ولكن كان الملمح الملفت فى هذا الأمر، أن كثيرين ممن استعانت بهم المؤسسة من العرب كانوا ممن على خلاف مع الأنظمة الحاكمة فى هذه الدول وقتها، أو من المناوئين لها، ومن يعترضون على سياسات دولهم أو يرفضونها جزئيًا أو كليًا، أو الداعين للتخلى عن الهوية والثقافة الوطنية والالتحاق بركب الحضارة الأوروبية وشمال المتوسط، وكثيرًا ما كانت ملاذًا آمنًا للهاربين أو الملاحقين أو المنفيين جبرًا أو اختيارًا، ونادرًا ما ضمّت قائمة العاملين بالمؤسسة أسماءً من داعمى الأنظمة السياسية والاتجاهات الحاكمة فى الدول الأم، وحتى من تسربوا إلى قائمتها لاعتبارات مهنية، أو لقصور ماكينة الرقابة والفحص فى المؤسسة، وثغرات التقارير الأمنية والمعلوماتية عن العناصر الوافدة، أو تحولات المواقف والميول والانتماءات خلال التواجد بالمؤسسة، جرى إبعادهم فى أوقات لاحقة بحجج واعتبارات شتّى، ولعل أبرز النماذج فى هذا الإطار الصحفى المصرى ناجى عباس، الذى عمل فى القسم العربى حتى شهور مضت، وتشير مصادر إلى أنه تعرض لمضايقات وضغوط مهنية ومالية فى عمله مع اكتشاف المؤسسة لميوله المؤيدة للدولة المصرية فى هيكلها السياسى، ولنظامها الحاكم، قبل أن تستغل المؤسسة الفرصة فى وقت لاحق وتطرده من العمل بسبب منشور عبر موقع «فيس بوك»، تضمن تعليقًا ساخرًا وهجوميًا، واعتبره البعض تهديدًا مبطنًا وتحريضًا على العنف، بحق الناشطة السياسية المصرية ماهينور المصرى، التى خرجت من السجن بعد فترة عقوبة فى تهمة تتصل باختراق قانون التظاهر، وأطلقت تصريحًا بعد خروجها اعتبره كثيرون من مؤيدى الدولة ومناهضى جماعة الإخوان مستفزًا ومنحازًا لفصيل إرهابى، وصفت فيه «سامية شنن»، المتهمة فى واقعة اقتحام قسم شرطة كرداسة، بـ«طنط سامية»، بينما تتضمن لائحة اتهامها أنها قدمت حمض النتريك «ماء النار» للضباط والجنود المصابين برصاص عناصر الإخوان، عندما طلبوا ماء ليشربوا وهم يحتضرون، وسكبت الباقى على وجوههم وأجسادهم، كما أشارت التحقيقات وأوراق القضية، بحسب محامين ومطلعين، لتصدر المؤسسة الألمانية بيانًا تعلن فيه فسخ تعاقدها مع ناجى عباس، باعتبار منشوره دعوة لعمل يُعاقب عليه القانون، مؤكدة فى بيانها أنها لا تتسامح بأى شكل من الأشكال مع مثل هذه التصرفات، وأنها تدرس اتخاذ خطوات قانونية مباشرة ضد «عباس»، وهو الأمر الذى يتناقض مع موقفها العملى من أسماء عديدة متورطة فى مواقف عدائية أخرى، ليس فقط على مستوى عداء الدول ومصالحها أو أنظمتها ورموزها، أو حتى عداء القيم الإعلامية والعمل وفق آليات ملونة ومضللة، ولكن أيضًا على مستوى العداء المتصل بأعمال يعاقب عليها القانون فى ألمانيا وفى الدول الأم، أو الانتماء لجماعات محظورة أو مُجرّمة قانونًا أو مصنفة على لائحة الجماعات الإرهابية، إذ تتضمن قائمة العاملين بالمؤسسة أسماء من أعضاء جماعة الإخوان والموالين لها، فى مقدمتهم أحد قيادات عمليات «دويتش فيله» فى مكتبها بالقاهرة، ومن حركة حماس، إضافة إلى أسماء تشير الشواهد إلى ارتباطها بـ«حزب الله» اللبنانى، ومنظمة «إيتا» الإسبانية وجماعة «أبوسياف» الفلبينية المنشقة عن جبهة «مورو»، وأمام سيل البيانات التحريضية والأعمال العدائية التى تصدر عن هذه الجماعات، وتعبير بعض العاملين بالمؤسسة عن تأييدهم لها، بشكل مباشر أو ضمنى، لا يصدر عن «DW» موقف رسمى كما حدث فى قضية ناجى عباس، بل على العكس تتبنّى المؤسسة توجهات وأفكار بعض هذه الجماعات، إما عبر استضافة عناصرها، أو تحرير المحتوى الإخبارى بشكل رمادى، وإسقاط التوصيفات القانونية عن الجماعات المدانة بالإرهاب، وتمييع اللغة وادعاء حالة من الحياد فى معالجة الأخبار والأحداث والتغطيات الميدانية والمواد المصورة وتعليقات المراسلين والمصادر، الموجهة جدًا، ولكن بقدر من الماكياج الرمادى على طريقة الأب جوزيف جوبلز.
العبور لـ«DW» من بوابة «BND»
السؤال المنطقى أمام حقيقة الفرز والاختيار السابقة، والذى سيتبادر لأى عقل ناضج ويفكر بآلية طبيعية، سيكون عن مصدر المعلومات التى يمكن أن تتوفر عليها مؤسسة «دويتش فيله» لتتمكن من اختيار رجالها وفق هذه الآلية، وبينما تبدو الصورة فى وجهها الأول مثيرة وغير منطقية، وتحمل قدرًا من التضخيم والتهويل والنفخ فى رماد منطفئ، إلا أن الروابط والعلاقات الخفية للمؤسسة تحمل التبريرات الكافية للأمر، فـ»DW» لم تنشأ منذ البداية بعيدة عن الأجهزة الأمنية الحاكمة فى الساحة الألمانية، وكما اهتم «جوبلز» و«هتلر» بتدشين البوليس السرى «الجستابو» منذ إبريل 1933، وبعد الفوز فى الانتخابات بأسابيع قليلة، ليكون متزامنًا مع تدشين مؤسسات إعلامية، وتطوير خطاب دعائى، وتنظيم مسيرات وتجمعات شباب القمصان السوداء، التى قادت عمليات التطهير ومطاردة الشيوعيين واليهود والكتاب والمفكرين المناوئين للنظام الجديد، والهجوم على المكتبات وإحراق الكتب، تزامنًا مع انطلاق «دويتش فيله» فى 1953 والقسم العربى فى 1959، تأسيس دائرة الاستخبارات الاتحادية الألمانية «BND» فى 1956، وهى جهاز اتحادى مسؤول عن الاستخبارات الخارجية، ورث «جستابو هتلر»، ويتصل مثله بالمستشارية الألمانية مباشرة، تتركز مهمته على جمع معلومات وتقارير عن الدول والمناطق التى تحتل موقعًا على أجندة اهتمامات ألمانيا، وضمن برامجها التوسعية اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا، وتقديم تصورات عملية للتحرك فى ساحاتها وتجنيد العملاء والموالين وتنفيذ خطط وعمليات نوعية داخلها، تقوم على الشحن الشعبى أو تحريك الكتل الأيديولوجية المناوئة لها، وذلك من خلال ما يقرب من 7 آلاف عميل، %25 منهم تقريبًا من القادة العسكريين والملتحقين السابقين بالجيش الألمانى، عبر أكثر من 300 نقطة ومقر داخل ألمانيا وخارجها، وبموازنة سنوية تتجاوز 500 مليون يورو، وبينما يحمل مدير العمليات المركزية فى «دويتش فيله» درجة نائب وزير، ويتصل عمله بالشؤون الخاصة ويتعامل مع مركز المستشارية مباشرة، فإن وزير الشؤون الخاصة نفسه، رونالد بوفالا حاليًا، هو رئيس دائرة الاستخبارات الاتحادية الألمانية، ما يعنى أن الرجل الأول فى «دويتش فيله» هو أحد رجال الصف الثانى فى الجهاز الأمنى الألمانى الأبرز، بصورة أو بأخرى، إما بالتبعية المباشرة والتراتب الوظيفى، أو بالتنسيق والتعاون وتبادل المعلومات والخطط والتقارير.
على صعيد التحرك الفعلى فى بيئات العمل التى تنشط فيها «BND» أو مؤسسة «DW»، قال خبراء أمنيون وإعلاميون، رفضوا الكشف عن هوياتهم، إن لديهم مؤشرات ومعلومات تشير إلى اتساع دائرة تحركات وعلاقات المؤسسة الإعلامية بشكل أكبر من طبيعة عملها الأساسية، أو بما يتجاوز احتياجات وخطط عمل مؤسسة إعلامية طبيعية، مرجحين اضطلاع دائرة الاستخبارات الاتحادية بالمهام اللوجستيه المباشرة على الأرض فيما يخص اختيار رجال «دويتش فيله» ومراسليها والمتعاونين معها، وإخضاع من يقع عليهم الاختيار للفحص والتدقيق الأمنى من خلال الدائرة، وتقييم المؤسسة لموظفيها وشركائها فى بروتوكولات التعاون والتدريب وورش العمل فى ضوء التقارير الأمنية والمعلوماتية الواردة إليها من «BND»، ما يعنى أن الرفض أو القبول لموظف أو محرر أو مراسل أو حتى ضيف، أو الشراكة الإعلامية مع صحيفة أو موقع أو قناة تليفزيونية فى دولة من الدول، هو رفض أو قبول أمنى بالدرجة الأولى، ووفق حسابات سياسية وأمنية أكثر من كونها أسبابًا ومنطلقات إعلامية ومهنية، يدعم هذا التصور تواتر معلومات عن تصاعد اهتمام ألمانيا بالساحة السياسية المصرية، أمنيًا وإعلاميًا، عقب ثورة 25 يناير، ربما لطبيعة العلاقات الدافئة والهادئة بين البلدين خلال فترة حكم مبارك، التى لم تكن ألمانيا تحتاج فى ظلها إلى اللجوء لنشاط تحتى مباشر فى الساحة المصرية، أو سلوك مسلك عدائى ومناهض للدولة المصرية، إضافة إلى سعى برلين للبحث عن موطئ قدم فى بنية التركيبة السياسية الجديدة بعد الثورة، والتى كانت تجهلها بطبيعة الحال، وهو ما يفسر سر تركز أغلب أنشطة «دويتش فيله» فى مصر على صعيد التغطية الواسعة والمركزة والعميقة، وعلى صعيد الاهتمام بالحركات والتوجهات السياسية الجديدة والشابة، واستضافة أسماء ورموز ناشئة ممن أفرزتهم المرحلة، وتنظيم عديد من ورش العمل والدورات التدريبية وعقد عشرات البروتوكولات واتفاقات التعاون والبث المشترك وتبادل المحتوى مع صحف ومواقع إخبارية ومنصات تليفزيونية، منذ 2011 وحتى الآن، إذ توازى كثافة الاهتمام بالشأن المصرى والسعى للتواجد على الساحة هنا فى السنوات الست الأخيرة، أضعاف ما كان عليه حال المؤسسة الألمانية فى تعاملها مع مصر منذ نشأتها وحتى اندلاع الثورة.
القائد فوق ألمانيا.. الأيديولوجيا فوق العالم
من شعار حملة جوزيف جوبلز للتسويق لـ«هتلر» فى انتخابات 1933 التشريعية، القائد فوق العالم، بما يحمله من تضليل للجماهير، وتعظيم للأيديولوجيا وفكرة تفكيك المجتمع لصالح الفرد، انطلقت «دويتش فيله» فى صياغة معادلتها الإعلامية فى التعامل مع قضايا العالم المحيط، أو بشكل أدق مناطقه المهمة التى تدخل فى دائرة اهتمام وعمل المؤسسة، فاختارت وضع الأيديولوجيا فوق مصالح الدول، وفوق العالم نفسه، منتصرة للدعوات الطائفية والتوجهات السياسية الضيقة والمنحازة بضراوة، عبر الاجتزاء وعرض جوانب مختارة بعناية من الصورة لصالح إغفال جوانب أخرى، وتعظيم خطاب الأقليات والرؤى الشخصية وجماعات المصالح و«الأنتلجنسيا» المتجاوزة لفكرة الدولة الوطنية، أو بمعنى أبسط دوائر النخبة المرتبطة بعلاقات خارجية، والمنحازة لاستيراد وتعميم أنماط سياسية وثقافية وسلطوية خارجية، مع إغفال واجبات العرض المتوازن والتمثيل العادل للرؤى والأفكار، ومن الطائرة التى جابت بالقائد 100 قرية ألمانية، إلى المنصات الإعلامية المحلقة فى عصر السماوات المفتوحة، طورت المؤسسة من إمكاناتها وأدواتها ومساحات تواجدها على خريطة الدول المستهدفة، انتقلت من مقرها الأول فى شارع «رادبور جورتل» بـ«كولونيا» إلى مبنى «شورمان» فى مدينة بون، غيرت شعارها الرئيسى من «صوت ألمانيا»، إلى «Made For MINDS»، من أجل العقول، أو صُنعت للعقول، فى استجابة مباشرة وواضحة لنداءات الآباء الأوائل «هتلر وجوبلز» وتابعيهم فى حزب العمال الاشتراكى ووزارة الدعاية السياسية و«الجستابو»، ضاعفت ميزانياتها وتغطياتها المالية من مئات الآلاف إلى أرقام ضخمة بثمانية أصفار، منها 250 مليون يورو للعمل فى الساحة المصرية وحدها، وبأرقام إجمالية تتجاوز ميزانية دائرة الاستخبارات الاتحادية الألمانية «BND» المقدرة بنصف المليار يورو، أطلقت البث التليفزيونى الفضائى سنة 1992، وأطلقت موقعًا إلكترونيًا ناطقًا بثلاثين لغة فى 2005، وأنهت البث الإذاعى العربى فى ديسمبر 2011، بعد ثورات المنطقة وتغير علاقات القوى، ما مكنها من النشاط المباشر فى كثير من الساحات، وأنهى حاجتها للبث الإذاعى الذى وفر لها طول ثلاثة عقود فرصة لاختراق دوائر السلطة والرقابة فى عدد من البلدان، كما دشنت أكاديمية علمية ومراكز بحثية، تنفق الملايين على ورش عمل ودورات تدريبية داخل ألمانيا وخارجها، شارك فيها عشرات المصريين والمؤسسات الصحفية والإعلامية، سنستعرض التفاصيل والأسماء لاحقًا، إضافة إلى برامج مكثفة بالمقر الرئيسى لمدة 18 شهرًا، يمكن بعدها إلحاق المتدربين بالعمل بالمؤسسة، بعد إثبات صلاحيتهم فى ضوء التقارير الفنية والأمنية، كما تمنح الأكاديمية شهادة الماجستير ولقب «صحفى دولى»، وتستهدف المؤسسة منها بحسب ما تقول عبر منصاتها، تخريج قوى مختصة فى العمل الإذاعى بالعالم الثالث، وتوسيع الإذاعة كأداة للتنمية، معبرة عن فخرها بوصول متدربيها لرئاسة أقسام وإدارة تحرير كثير من إذاعات العالم، وبالطبع فإن برامج التدريب التى أسست معارف هؤلاء المتدربين وأفكارهم وانحيازاتهم المهنية، كانت من داخل المقرر الرسمى لـ«دويتش فيله»، من داخل مدونة المؤسسة الملتزمة بأفكار «جوبلز» ونظريات الدعاية السياسية، وهو ما يمكن اكتشافه بشكل مباشر من خلال المحتوى الذى تبثه المؤسسة، حتى عبر وجوه إعلامية تربت وتعلمت وعملت فى منصات إعلامية أخرى تحتفى بقيم مهنية مغايرة، كأن تجد صحفيًا تخرّج فى مدرسة هيئة الإذاعة البريطانية «BBC» بما يُعرف عنها من التمسك بتقاليد مهنية صارمة فى تخطيط المحتوى وبنائه وعرضه، وضمان الوصول المتكافئ لأطراف الأحداث وأفكارهم، بينما يجلس على شاشة «دويتش فيله» محاورًا لأستاذ علوم سياسية، والاثنان مصريان بالمناسبة، مستشهدًا بتصريح لوزير الدفاع الإسرائيلى أفيجدور ليبرمان، يسخر فيه من تداول معلومات عن تنفيذ ضربات جوية داخل سيناء، مستخدمًا اسم دولة «ليختنشتاين» فى سخريته، ليتجاهل الإعلامى والضيف حقيقة السخرية فى التصريح، ويعمدان للتضليل بالتعامل معه كإقرار واقعى بالمعلومة المخترعة، ثم ينخرطان فى التنظير والتحليل القائمين على قدمين من أكاذيب، وهكذا تصنع «دويتش فيله» محتواها، هذا هو القانون العام الذى تلتزم به ماكينة العمل، وفيما يخص هذا القانون وشكل المحتوى وآليات بنائه وتوجيهه ستكون لنا وقفات فى الحلقات المقبلة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة